الاثنين، 9 نوفمبر 2020

سيميائية البحر واليابسة

 

الفصل الثاني من الكتاب النقدي الذي يحمل عنوان "بين ضفة السراء وضفة الضراء".

مصدر الصورة


(لقراءة الفصل الأوّل اضغط هــنا


سعيد بودبوز


لقد رأينا، من خلال الفصل الأول، بأنّ هناك علاقة دلالية ورمزية عميقة بين مفردتي "البحر" و" المطر"، وتحدثنا عن طبيعة هذه العلاقة، وكيفية تفاعل بعضها مع بعض دلاليا، والآن سنسلط الضوء على ثنائية أخرى من خلال محاولة الكشف عن طبيعتها الدلالية، وهي علاقة إيراد كلمة "البحر"  ببعض الدوال التي تدل على "البر" أو "اليابسة". ومن الجدير القول بأن هذه المفردات، التي أقوم بتحليل النص انطلاقا من رصد طبيعة تموقعها في سياقه العام، تعتبر مفردات مفاتيح بالنسبة للمنهجية التي تقوم عليها  قراءتي هذه. إذن، فالمفردات مثل "بحر" أو "مطر" أو "ضفة" ما هي إلا مداخل معجمية نعبر من خلالها نحو أعماق النص (في ضوء تفاعلها فيما بينها وتفاعلها مع السياق العام الذي يحكم الديوان ككل)، وإعادة تركيبه نقديا، بعد استجلاء خفاياه الدلالية والرمزية الممكنة، من خلال النفوذ الممكن إلى المستوى العميق الذي يشكل بنيته الأساسية، والذي يكتسي  تمظهرات البنية الخطابية السطحية.

يقول الشاعر:

"وما زلت أبحث عن ظلي

بين شظايا الغروب

وغياهب الرياح

وعلى الضفة الأخرى

يتكسر حلمي الوحيد

سعيا إلى حياة أفضل

خلف أسوار الشمس"[16].

إن المقطع أعلاه يتضمن الإشارة إلى وضعيتين على ضفتين؛ الأولى هي الضفة الجنوبية، حيث يتواجد الشخصية المحور (المهاجر) قبل أن يتمكن من العبور، والثانية هي الضفة التي يتمنى العبور إليها. لا بأس من تقسيم المقطع، وتحديد الشطر الذي يتضمن الإشارة إلى الضفة الأولى، و الشطر الذي يتضمن الإشارة إلى الضفة الثانية كالتالي:

 

ضفة 1:

 

" وما زلت أبحث عن ظلي

بين شظايا الغروب

وغياهب الرياح"

 

ضفة 2:

 

"وعلى الضفة الأخرى

يتكسر حلمي الوحيد

سعيا إلى حياة أفضل

خلف أسوار الشمس"

 

من البديهي أن "البحر" هو الفاصل بين الضفتين، ولكي نتوصل إلى فهم طبيعة الترميز الكامن في هاتين الضفتين، فلنقل بأن اليابسة تقابل الضفة الأولى، بينما "البحر" يقابل الضفة الثانية، من حيث أن "البحر"، كما رأينا من خلال الفصل الأول،  يدل على "الثراء" (السراء)، أما اليابسة، فكما رأينا وسنرى لاحقا، تدل على "الفقر" (الضراء). من هنا يمكن القول بأن المجرى الذي أخذته البنية الدلالية في هذا المنعطف كالتالي:

 

 

على ألا يغفل القارئ ما تشير إليه مثل هذه الرموز (– +)، فكلمة "بحر"، في المثال الأول، وضعت قبلها رمز (–)، للإشارة إلى مرحلة ما قبل ركوب "البحر"، (تذكَّر مقارنة ذلك مع "شرب المطر")، وذلك يساوي (=) الضفة الأولى التي يفترض أن المهاجر قد انطلق منها. كذلك وضعت رمز (+) قبل مفردة "البحر"، في المثال الثاني، للإشارة إلى تحقق التجربة التي تتضمن عبور "البحر"، علما بأن عبور هذا الأخير يعني الوصول المفترض إلى "الضفة الثانية"، فهذا هو الفرق بين الضفتين والبحرين !

ملاحظة:

(إن ثنائية "العطش" و"الارتواء" هنا عبارة عن مكون تضادي دلالي يقع ضمن البنية العميقة، أي أنه يقع ضمن نطاق الدلالة الثانية للنص. على سبيل المثال: يكفي أن نقول بأن (– بحر) يدل على اليابسة، وأن (+ بحر) يدل على الماء، حتى نغطي المستوى الخطابي للنص، وهذا  ما أعنيه بالدلالة الأولى، أما تجاوز "اليابسة" مثلا إلى القول بأنها تدل على "العطش" بدورها، فهذا يقع في البنية العميقة للنص، وهذا ما نعني بالدلالة الثانية.)

هذا هو السبيل الذي يجب أن نسلكه في تحليل التمظهرات التي أخذها كل من الضفة الأولى والثانية والبحر في هذا الديوان، فالأمر مرتبط بالمتكلم (المسافر)، ومن المعلوم أن هذا الأخير، قبل أن يصل إلى الضفة الثانية (= السراء)، يجب أن يكون قد ركب "البحر"، أما  وجوده على الضفة الأولى (= الضراء) فهو لا يستدعي ركوب هذا "البحر". ما معنى هذا؟ معناه أن "البحر" قد تحول إلى دال على (الثراء) عن طريق الاحتكاك، المفترض حصوله، بينه وبين البحَّار المتكلم، أي لمجرد أن الوصول إلى الضفة الأخرى يقتضي عبوره. والدلالة العميقة، لهذه النقطة، تقوم على أن الضفة الأولى (= اليابسة) تتحول إلى دال على "العطش" لمجرد أن عبور "البحر" (= شرب الماء) يأتي بعدها ! سأعيد كرة التوضيح فأقول: لدينا ضفتان؛ واحدة قبل "البحر" والثانية بعد "البحر". انظر الشكل التالي:

 

 

 

فمن خلال تأمل العلاقات التي تمثلها السهام، يتضح لنا، مما سبق، بأنه لا بد من أخذ العامل الزمني المصاحب لعملية الانتقال الحكائي الرمزي من الضفة الأولى إلى الضفة الثانية، فعلى هذا الصعيد اندمج العامل (الزمني) في  البنية الدلالية، ولكي نبسط ونوضح ذلك أكثر سنقول: "مرحلة ما قبل البحر"، بدل أن نقول: "الضفة الأولى"، ونقول: "مرحلة ما بعد البحر"، بدل أن نقول: "الضفة الثانية". ولكي نختصر هذه الكلمات، سنرمز للمرحلة الأولى بحرفي "ق.ب"، ونرمز للمرحلة الثانية بحرفي "ب.ب". لنلقي نظرة على الشكل التالي:

 

 

 

الشكلان أعلاه يوجزان ويوضحان بأن الضفة الأولى تساوي اليابسة (= عطش)، من حيث أن فعل العبور (= شرب) يأتي بعد الوجود فيها (عطشان) وليس قبله، أما الضفة الثانية فهي تساوي (الارتواء)، من حيث أن فعل العبور (= شرب) يأتي قبلها !

نأخذ مقطعا آخر، وهو قول الشاعر:

"أركب مساحة البحر

وأعبر مداره الطويل

وأعصر أمواجه

على حافة الظل

في جذع شجرة البلوط

دفنت آخر لحظة

من تجاعيد المياه المضطربة"[17].

هذا المقطع أيضا يتضمن الإشارة إلى نوع من التضاد القائم بين "البحر" و"اليابسة"، إلا أن ذلك يبدو غامضا بعض الشيء، ولكن بعد أن نأخذ مثالا آخر سنقترب من فهم اللعبة، وبالتالي سيكون التحليل أكثر وضوحا بالنسبة للقارئ. لنأخذ مثالا آخر( والذي ذكرته في الفصل الأول)، قبل أن نعود، مرة أخرى، إلى هذا المقطع، حيث يقول الشاعر:

"لم يكن الزمن دوما

لينزف ملح بحورنا

ولا زرقة سمائنا

ما نحن إلا فقراء الأرض

سيشهد لنا التاريخ

أننا دخلنا وخرجنا

من باب واحد"[18].

لقد قلت في الفصل الأول، عن هذا المقطع، ما يلي:

"لو نزف الزمان ملح هذه "البحور" لأصبحت عذبة، وكذلك لو نزف زرقة "السماء" لحصل هناك مطر. إذا كان الحديث عن "البحر" قد أصبح مفهوما، على أنه يرمز للثراء (السراء) في مقابل اليابسة التي ترمز للفقر (الضراء)، فإن ذكر "السماء" هنا، كما نرى، ما هو إلا حديث عن الماء أيضا. ويكون المقابل الوحيد لذلك هو الأرض التي هم فقراؤها كما قال الشاعر".

 أتبنى هذا الكلام بالحرف الواحد هنا أيضا، وأضيف قائلا بأن هناك تضادا دلاليا ورمزيا بين "البر" و"البحر"،  يقوم على كون هذا الأخير يرمز، في إطار تكامله مع "المطر"، للتخلص من الفقر (مرحلة السراء)، تماما كما رأينا في الفصل الأول، بينما نجد البر يدل على الفقر (مرحلة الضراء). من الجلي أن المقطع الأخير يتضمن تضادا بين "البحر" و"البر"، فالأول جاء في صورة إيجابية، بينما الثاني جاء على عكس ذلك. بما أن الزمان لم يسعفه لركوب البحر، فإن المهاجر المتكلم مجرد فقير من فقراء "الأرض" (= يابسة). الآن سنعود إلى المقطع الأول وسنراه بطريقة أخرى، أي أنه يتضمن عناصر تدل على التضاد القائم بين "البحر و"البر"، وأن الأول يدل على "الثراء"، بينما يدل الثاني على "الفقر". انظر مرة أخرى إلى قوله:

" في جذع شجرة البلوط

دفنت آخر لحظة

من تجاعيد المياه المضطربة"

لنقارن هذا المقتطف مع ما ورد من خلال المقطع الأخير، وهو التالي:

"ما نحن إلا فقراء الأرض"

ففي المقطع الأول دفن آخر لحظة من تجاعيد المياه، أي أنه كان يفكر في اللحظات التي يفترض أنه عبر فيها "البحر". إنه نوع من الاسترجاع لشيء من الماضي السار (وهذه هي مرحلة "السراء"، و سوف أتحدث، في الفصل الثامن، عن التقسيم الرمزي لهذا الديوان إلى ثلاث مراحل، وأن "البحر" عنوان للمرحلة الأولى، التي تقع في زمن ما قبل النص، في مقابل مرحلة "الرذاذ" التي تقع في الزمن المتخيل فيما بعد النص). لقد استرجع الناصّ، واستعرض في ذاكرته، تلك المياه المضطربة (عبور البحر)، ولكن عندما انتهى ذلك، وأصبح مجرد ذكرى في رأسه، تحت شجرة البلوط،  قرر أن يدفن هذه الذكرى الجميلة. إن جذع شجرة البلوط يقع ضمن اليابسة، والشيء نفسه، في المقطع الثاني، حيث نلاحظ بأن الشاعر ينفى عنه، وعن باقي شركائه، أن يكون الزمان قد نزف ملح بحورهم، أو زرقة سمائهم. وفي الوقت نفسه أكد بأنه وشركاءه مجرد فقراء الأرض بقوله : " ما نحن إلا فقراء الأرض". فبعد أن نفى ما يتعلق بالبحر والسماء، يكون قد قرن الفقر بالأرض، وقرن الثراء بالبحر للمرة الثانية. لقد أصبحت المياه ذات تجاعيد (عجوز)، وهذا يتناسب مع كون الناصّ يدفن آخر لحظة من لحظاتها، أما عملية الدفن فهي تستدعي، في أذهاننا، ما يدل على الأرض، أي أن جذع شجرة البلوط يقع في باطن الأرض. لاحظ أن كلام الشاعر يوحي بأنه لو "نزف الزمان ملح بحورهم وزرقة سمائهم" ما أصبحوا "فقراء الأرض"، أما والزمن (لم) ينزف ملح بحورهم ولا زرقة سمائهم، فهذا يعني أنهم فقراء الأرض، تماما كما دفن، من خلال المقطع الثاني، آخر لحظة من تجاعيد المياه البحر = (السراء السابق) في جذع شجرةالأرض = (الضراء اللاحق). أقول "الضراء اللاحق"، لأن قراءتي هذه تقوم على تقسيم الديوان إلى ثلاث مراحل، كما أشرت أعلاه، وأنه يتأرجح (بل يتدحرج) من مرحلة "السراء" إلى مرحلة "الضراء"، وسوف يأتي المزيد من التفصيل في ذلك من خلال الفصول اللاحقة.

"ومنذ زمان وأنا أركض خلف السراب

محملا ببقايا الصبار

وهناك على الخصلات

كنت أخطب ود البحر

حيث تنبت الوعود الوهمية فوق الرمال

وتتوارى عصافير الجياع"[19].

تتكرر مطاردة السراب أكثر من مرة. إذا كان  الصبار يعني الصبار الهندي المعروف بـ"التين الشوكي"، فهو يدل على الصبر، ويدل على قلة الغذاء، سواء القلة النوعية أو الكمية. إن ما لا يجب أن نغفل عنه، في هذه النصوص، هو أن التضاد القائم بين مبدأ اليبوسة والرطوبة حاضر بشكل قوي، ويمتد من سطح النص إلى قاعه. لهذا، فليس من الغريب أن نتحدث عن "الصبار"، كرمز لليابسة، في مقابل ما يرمز للماء كالسراب/ البحر/ المطر/ الرذاذ الخ. إن الصبار لا يعبر عن الصبر من حيث بعده المعجمي فحسب، بل يدل عليه أيضا من حيث طبيعته، فهو نبات صحراوي يتسم بتحمل العطش طويلا، إذ تراه أخضر حتى وإن لم يذق الماء لسنوات، ولا شك أنهم أطلقوا عليه اسم "الصبار" انطلاقا مما يتمتع به من الصبر على هذا المستوى. إن المقطع السابق يتضمن حديثا عن مطاردة السراب، من قبل الناصّ، في إطار البحث عن الماء، فمنذ زمان وهو يبحث عن الماء، لكنه لم يجده. وهذا "الزمان" يعني أنه قطع شوطا من العطش. لاحظ أن إشارته إلى  الصبار تعبر عن حالته وليس عما يحمل. هنا تبدو لنا العلاقة جلية بين الناصّ والصبار، فالأول (صبار)، لأنه لم يمت من العطش، والدليل على ذلك أنه صمد لمدة طويلة (منذ زمان) وهو يلهث خلف السراب. لهذا فقط تسلح بالصبار، سواء تم ذلك عن وعي منه أو عن غير وعي ! 

بعبارة أخرى:

لا فرق بين حياة الناصّ داخل النص، وحياة الصبار خارج النص.

 إذا كان السراب يدل على الماء ( الصالح للشرب)، على مستوى الدلالة الأولية، فإنه يدل أيضا (من خلال بعده المائي) على الخلاص من الفقر (= السراء). ويتضح لنا ذلك عندما يصل الناصّ إلى "البحر" ويخطب وده. هنا يلتقي الفعلان (شرب/عبر) من جديد، حيث يتحول العطش (الحاجة إلى الشرب) إلى الرغبة في ركوب البحر (الحاجة إلى العبور). إن تعلق الأمر بالبحر، بعبارة أخرى، يدل على كل من الظمإ (= الحاجة إلى الشرب)، و الفقر(= الحاجة إلى العبور).  ولفك طلاسم هذه اللعبة راجع الفصل الأول من هذه الدراسة. ينبغي ألا ننسى بأن الطاقة التدليلية، التي تقوم عليها البرمجة العميقة للنص، تعتمد كثيرا، من الناحية السيكولوجية، على البنية اللاشعورية، و هذا يعني أن طبيعتها ليست بعيدة عن طبيعة تكوُّن الحلم.  إن الصورة التي التقطها الناصّ، وهو يخطب ود البحر، تجعلنا ندرك بأن ركضه خلف السراب يمثل ركضا خلف الخلاص من الفقر. وبما أن التدليل على "الخلاص" بـ "السراب" يتضمن الإشارة إلى فقدان الماء، فلذلك انتهى الناصّ إلى أن خطب ود البحر !

وللتوضيح أكثر بأن السراب يشير إلى الماء، يقول الشاعر:

 

"هنا يرقد الطفل المقهور

الذي كان يفتش عن قوته اليومي

في صناديق القمامة

لقد لعق السراب...عطشا

فأكل الصبار...جوعا"[20].

 

لاحظ أنه عندما كان الراكض يركض خلف السراب، كان يحمل قليلا من الصبار (= نبات حقيقي)، وعندما كان يخطب ود البحر، كان هناك (نبات) وعود وهمية   (= نبات مجازي). لقد جاء الصبار نباتا حقيقيا، لأنه يدل على الموقف الذي يمثله الناصّ في النص؛ ألا وهو تمثل ما تعانيه الطفولة الموضوع من الفقر والحرمان والتهميش، أما الوعود فلقد جاءت نباتا مجازيا، لأنها تعبر عن بعد مستوى تحقيق الخلاص من هذا الفقر والحرمان والتهميش. أعتقد أن القارئ الآن قد أدرك جيدا طبيعة المنهجية التي اتبعها في تحليل هذا الديوان، وأصبح يعرف كيف أستدل بما هو مجازي على ما هو بعيد المنال، كما يعرف، من خلال ما سبق، بأنني أستدل بما هو حقيقي على ما هو قريب المنال على سبيل المثال.

إذن، فلن يكون كلامي مفاجئا لو قلت بأن نعت الشاعر "الوعود" بالوهمية ما هو إلا توكيد على بعد هذه الوعود من مستوى التحقق، أضف إلى ذلك قوله "فوق الرمال"، لأن الرمال عقيمة كما هو معروف. أعتقد أيضا بأنني لن أفاجئ القارئ بالقول أن الغذاء (الصبار= اليابسة)، الذي حمله الناصّ، لم يغنه من الركض وراء السراب (الماء = البحر)، لماذا؟ لأن الهم الأكبر منه يتمثل في البحث عن (الماء = البحر).

فالناصّ مشغول بالبحث عن الماء (= البحر)، وليس لديه ما يكفي من الوقت (الاهتمام) ليلتفت إلى الصبار (= اليابسة). لننظر الشكل التالي:

 

 

إن الذي يحدث هو أن هناك تيارين دلاليين متضادين؛ واحد يقوم على التوجه من نقطة الإثبات إلى نقطة النفي، والآخر بالعكس، لنتابع التالي:

 

 

بصيغة أخرى أكثر تبسيطا:

 

 

إذا تأملنا طبيعة العلاقة التي تعبر عنها السهام بين البنيتين، سيتبين لنا جزء من اللعبة الرمزية التي تحدث في النص. إذا كانت حركة الشخصية المحور تتم عبر المسار التقريري، فإن حركة السراب تتم عبر المسار الإيحائي. تتحرك الأولى في خط أفقي للنص، بينما تتحرك الثانية في خط عمودي. لقد انطلق السراب من نقطة إثبات الماء، وانتهى إلى نقطة نفي الماء، أما الناصّ فقد انطلق من نقطة نفي الماء، وانتهى ركضه في نقطة إثبات الماء. يجب أن ننتبه إلى أن جدلية الثبوت والانتفاء هنا متعلقة بإدراك الشخصية الفاعلة داخل النص، وبناء على إدراك عاملي لمسار النص. على سبيل المثال، نحن نعرف بأن السراب غير موجود موضوعيا، ولكن وجوده ذاتيا يعطيه طاقة رمزية لا تقل عما هو موجود موضوعيا، فوفقا لإدراك الناصّ، داخل النص، يمكن القول بأن "السراب" كان قائما قبل أن يقترب الراكض منه. ولكن ما إن اقترب منه حتى تلاشى، وهذا يعني أنه تحرك من نقطة الإثبات إلى نقطة النفي (انظر الفصل الخامس من هذه الدراسة)، أما الراكض فقد انطلق من "اللابحر" وانتهى إلى "البحر"، حيث خطب ود هذا الأخير بصريح قول الشاعر. حتى العنصر الدال على الطعام (= النبات) بدأ بالثبوت وانتهى بالانتفاء، فعندما كان الراكض على "اليابسة" كان يحمل صبارا (= نبات طعام حقيقي)، وعندما وصل إلى "البحر" تحدث عن وعود (= نبات طعام مجازي). نفهم من هذا أن هناك مجموعة من السيرورات يحاكي بعضها بعضا، وهكذا يأتي البحر في حلة إيجابية في مقابل اليايسة، أو الأرض، التي قال عنها الشاعر:

"ولكم أيها الأطفال، أن تحلموا

بسراب الظل النائم على الأرض

أنتم سجناء قصيدة أبياتها لم تكتمل"[21].

فالأرض صارت مهيأة لاحتواء كل ما لا يرضي الناصّ، أو الشخصيات المكتوب عنها، بخلاف "البحر". فما الظل إلا بديل عن صاحبه، مما يدل على مزيد من لاجدوى الحلم، بالإضافة إلى أن هذا الأخير أصلا دليل على بعد الأطفال عن مستوى تحقق شيء مما يسعون إليه. وكما نرى، في السطر الثالث من المقطع أعلاه، بأن هؤلاء الأطفال مازالوا "سجناء قصيدة لم تكتمل أبياتها ". كل هذا جاء في معرض الحديث عن السراب النائم على "الأرض"، التي تقع في مقابل "البحر"، امتدادا لما يفضي إليه هذا الأخير من حياة كريمة هناك على الضفة الأخرى. فعلى الرغم من أن هذه الضفة الأخرى تنتمي، بطبيعة الحال، إلى الأرض هي الأخرى، إلا أن ورود هذه الأخيرة، في النص، يأتي بالأرض التي تدل على الضفة الأولى (أي ضفة ما قبل عبور "البحر")، ومن هنا يتفرع النص، وتتوسع عناصره الدلالية لتشمل المفردات الدالة على "الماء" و"اليابسة" في سياق يقوم على التضاد الكامن في كلا الحقلين؛ "الماء" و"اليابسة". إذا قال الناصّ:  "ولكم أيها الأطفال أن تحلموا بسراب الظل النائم على الأرض"، في الصفحة الأربعين مثلا، فلقد قال، قبل ذلك في الصفحة السادسة والثلاثين، ما يلي:

"وأنا المحاصر فوق أرضي

حيث أصبحت أبحث عن منفاي

بين الغيوم المتلبدة"[22].

ففي الوقت الذي يبدو فيه محاصرا فوق أرضه (= اليابسة)، التي تصب فيما يقع ضمن الحديث عن الضفة الأولى، يؤكد الناصّ بأن الأمر يتعلق بالبحث عن المنفى، مما يدل على أن هناك رغبة في البعد عن الوطن، وما هذه الرغبة إلا إضافة إلى حاجة المهاجر إلى الهجرة، مما يعني عبور "البحر". ولكن مهلا، يبدو أن هذا المنفى قد أصبح بين الغيوم، وليس وراء "البحر"! كل ما هناك هو أن الناصّ قد انتقل من الأرض (= اليابسة = العطش = الضراء) إلى السماء ( = المطر= الارتواء = السراء). للمزيد من التفاصيل، حول دلالة "السماء" في هذا الديوان، راجع الفصل الأول. إن الناصّ، بعبارة أخرى، قد استبطن ما تشير إليه "الأرض"، باعتبارها يابسة تعتبر تلقائيا ضد "البحر"، وبدل أن يتوجه إلى ضدها المباشر فيقول مثلا: "أبحث عن منفاي هناك وراء البحر"، قال: "أبحث عن منفاي بين الغيوم المتلبدة"، وأصبح علينا أن نجري للمقطع قراءة معكوسة (من خلال تفكيك التقنية التي استخدمها الشاعر في هذا التصوير). ولقد استخدم نفس هذه التقنية في مواطن أخرى، ومنها ما ورد في الصفحتين؛ الرابعة والثلاثين والخامسة والثلاثين، كما رأينا أعلاه، وهو قول الشاعر:

" ومنذ زمان وأنا أركض خلف السراب

محملا ببقايا الصبار

وهناك على الخصلات

كنت أخطب ود البحر

حيث تنبت الوعود الوهمية فوق الرمال

وتتوارى عصافير الجياع"[23].

فالانتقال من السراب إلى خطب ود البحر، هو انتقال يقوم على استبطان عنصر "الماء". ورغم أن العلاقة، التي تربط الراكض بالسراب، تتمثل في "العطش"، إلا أن الراكض (المتكلم) قد انتقل، مستغلا هذه العلاقة، إلى خطب ود "البحر"، مع العلم أن علاقته بهذا الأخير لا تتمثل في "العطش"، بل في الحاجة إلى العبور. ويبقى العنصر المستبطن في لاشعور الناصّ هو "الماء"، فكما أن هذا الأخير، الذي يدل عليه السراب، يشير إلى القابلية للشرب، كذلك "البحر" الذي يدل (برمزيته العميقة) على "الماء" يشير إلى القابلية للعبور، وهو نفس الشيء الذي فعله الناصّ أعلاه حيث قال:

"وأنا المحاصر فوق أرضي

حيث أصبحت أبحث عن منفاي

بين الغيوم المتلبدة"

أي أنه استبطن عنصر "الماء"، باعتباره الجامع بين الدالين؛ "البحر" والمطر"، وانتقل إلى الغيوم "المطر" مستغلا مبدأ العطش في إشارته إلى الرغبة في العبور ! أعتقد أن هذه التقنية تقربنا أكثر من الاكتشاف بأن ما ذكرته سالفا من العلاقة بين (العطش/ الفقر/ الارتواء/ الثراء الخ) قد صار حقيقة تتضح أكثر فأكثر. ألم أجمع بين الفعلين (شرب/عبر)؟ ! ها هو الشاعر يكاد يوضح لنا بأنه لا فرق ( في عمق النص) بين حاجة العطشان إلى الماء (= المطر) وحاجة المهاجر إلى الماء (= البحر)، ولهذا جمعت بين فعل "شرب" وفعل "عبر" ! وهناك صورة رائعة تجمع هذه التقنيات الأسلوبية بشتى ألوانها، حيث يقول الشاعر:

"من قعر  البحر

استلهم أغنياتي الحزينة

وليت غيمة شرقية

تسقط على موجات قيثارتي

فأكتب قصيدة للمطر

لأني عشقت ملح المطر

حينما كنت سجينا

تحت أشجار الصنوبر"[24].

فمن قعر "البحر" إلى قمة "السماء"، أو من قاع الماء إلى أعلى الماء. في هذا المقطع نستطيع أن ندرك بأن استخدام الشاعر لمفردتي "البحر" و"المطر" يقوم على استبطان البعد المائي الذي يأخذ القابلية للشرب حينا، ويأخذ القابلية للعبور أحيانا أخرى. ومن هنا تتفرع الدلالة العميقة للنص، وتمتد في شبكة معقدة يتحد فيها "العطش" مع "الفقر" في مقابل الاتحاد بين "الارتواء" والثراء"، وهذا بالضبط ما دفعني للانطلاق من تفكيك البعد الحكائي، لهذا الديوان، كما قلت في الفصل الأول، لأن البعد الحكائي يتضمن إشارات سردية إلى أن الشخصية المحور (الذي يعبر بنموذجية عما تعانيه الطفولة من التهميش)، قد التقط مشاهد أساسية إلى جانب "البحر"، وهي المشاهد التي تعكس مدى تعلقه ورغبته في العبور إلى الضفة الأخرى حيث الحياة الأفضل. وبقدر ما يشكل "البحر" مشهدا أساسيا، في هذه النصوص، سوف نجد بأن "الرذاذ" أيضا يشكل مشهدا أساسيا بما يدل عليه من التشاؤم، من خلال انحناء المسار الدلالي للنص من مرحلة "البحر" فـ"المطر" فـ"الرذاذ" الخ. إذن، هناك امتزاج لاشعوري بين نعمة "البحر" ونعمة "المطر"، نتحسسه حتى في قوله "عشقت ملح المطر"، فكأنه يريد أن يقول"عشقت ملح البحر"، فتارة يعبر عن رغبة ما في الاتحاد المرجعي بين "المطر" و"البحر"، فيقول "وليت غيمة شرقية تسقط على موجات قيثارتي"، أو "أمواج بحري الذي أنا في قعره" انظر الفصل الرابع من هذا الكتاب، حيث أتحدث عن تقنية "الإحلال والاستبدال" لدى الشاعر بن يونس ماجن، وسيتضح لك بأن استلهام (الأغنية) هو الذي حوَّل سطح "البحر" إلى (قيثارة) هنا !

يقول الشاعر في مقطع آخر:

"إنهم الآن يكنسون المطر في أرض خلاء

تخومها من جدائل الحلفاء"[25].

لاحظ طبيعة العلاقة بين الماء واليابسة، ولاحظ كيف تنعكس في خطاب الناصّ، فالأطفال المتحدث عنهم يكنسون المطر(= الماء) لشدة حاجتهم إليه، أما الأرض فهي "خلاء" غير مرغوب بها. الأرض هنا جاءت بشكل معمم، ولكن أصل هذا التعميم يكمن في الخصوص الذي يتمثل في علاقة الناص بالضفة الأولى (ضفة الضراء). قد يكون الحديث عن هذه النقطة معقدا، ولكني سأحاول تبسيطه ما أمكن. في الواقع، إذا تعمقنا في قراءة النص لن يصبح باستطاعتنا أن نحلل ونفهم هذه المفردات مثل "المطر" و"أرض الخلاء" الخ فحسب، بل نستطيع تعليلها وتأويلها أيضا، أي نستطيع أن ندرك لماذا هي موجودة في النص أيضا ! إن "أرض الخلاء" هنا عبارة عن كل أصله جزء، وأن "المطر" عبارة جزء أصله كل.

أرض الخلاء كل، والجزء الذي انبثقت منه يتمثل في "ضفة الضراء"، و"المطر" جزء، والكل الذي انبثق منه يتمثل في "البحر". هناك جذران أو بذرتان مدفونتان تحت تربة النص، ووعي الناصّ، والخطاب الذي يطفو على سطح النص. هذان الجذران هما "البحر"و"اليابسة". الجذر الذي يمثله البحر مدَّ أحد أغصانه في شكل "مطر"، والجذر الذي تمثله اليابسة مدَّ أحد أغصانه، من العمق إلى السطح، في شكل"أرض خلاء". ومن هنا تتفرع البنية العميقة، وتطفوا في أشكال مجموعة من التجليات لتكون الخطاب.

 

"وأنا أجد السلوى حينما أرسم في الماء

رغيفا وحساءً

وأتمدد تحت دفء السراب"[26].

 

حتى رسم الرغيف أصبح من المستحسن أن يكون في الماء. إن تمدد المتكلم تحت دفء السراب هو تمدد على الأرض (اليابسة)، وأن عدم احتواء هذه اليابسة (ضفة الضراء) على مقومات العيش الكريم يساوي "السراب" الذي تضطمر فيه الإشارة إلى "الماء" المفقود بكل ما يرمز إليه في هذا الديوان. بيد أن السراب هنا لا تضطمر فيه الإشارة إلى الماء المفقود (وغير المذكور في المقطع) فحسب، وإنما تضطمر فيه أيضا الإشارة إلى "الماء" (المذكور في المقطع) الذي يرسم فيه المتكلم رغيفه وحساءه، لأن الأمر لا يتعلق بالرسم الذي تستعمل فيه الألوان، بل يتعلق بالتخطيط، أي أن الفضاء الذي أخطط فيه لمشروعي المستقبلي هو فضاء الماء (= البحر)، وإن كان المستوى السطحي للنص يقبل أن نتحدث عن الرسم العادي الذي تستعمل فيه الألوان والريشة واللوحة الخ. كل هذه الإشارات، في الواقع، تكونت في منظومة سياقية محكومة بالحكاية التي تفاعل فيها الشخصية المحور مع "البحر"، وهذا الأخير  يأتي في صورة "مطر" أحيانا، ويأتي في صورة "رذاذ"، كما يأتي في صورة "ماء" و"سراب"، في أحيان أخرى، بغض النظر عن التفاصيل التي تقودنا إلى الاقتراب أكثر من طبيعة تجلي هذه العناصر في النص، وانتقالها من تقمص شكل إلى آخر. فعندما يأتي في صورة "البحر" يصبح "الماء" سلعة نادرة كما نستشف من خلال المقطع التالي:

 

"من أين لك هذا البحر؟

وأنت تدير ظهرك للأمواج

وتقرأ في كل يوم طالعك الخفي"[27].

 

فكأن المخاطَب (الموجه إليه السؤال) استل بحرا من غمده، وأثار بذلك تساؤل المتكلم. وكأن نعمة هذا "البحر" قد نزلت على المخاطَب هدية من "السماء"، رغم أنه لم يبذل ما يستحقه ذلك من جهود. فرغم أنه يدير ظهره للأمواج، مما يدل على ابتعاده عن المغامرات من هذا النوع، إلا أن هناك إشارة إلى ضفره بما تيسر من "البحر". لقد تحول هذا الأخير إلى لعبة من تلك اللعب التي يتهافت عليها الأطفال، وينسجون حولها أساطيرهم الصغيرة، أو يقيمون بإحياء ذكرى اليوم الذي اشتراها أباؤهم لكي يفرحوهم بها. بعضهم لا يغادر دميته، حتى وهو جالس حول الطاولة لتناول وجبة فطوره، وقد قضت الدمية معه الليل بأكمله. وبعضهم يفتح معها حوارا بيزنطيا حيث تراه لا يكاد ينطفئ، وكأنها تجيبه بما يؤجج نيران ثرثرته.

فمن أين لك هذا البحر؟ سؤال يوحي بأن البحر أصبح شيئا صغيرا، وربما هناك علاقة بين التصغير والتحبيب، أو بين التقليل والتحبيب. فكل ما هو صغير هو أقرب إلى الجمال من الكبير، على الأقل، في عالم الحيوان (بما في ذلك الإنسان). فأن يصبح البحر ملكا لأحد، يعني أنه قابل للحد في حيز محدود، لا يتجاوز ما يستطيع شخص ما أن يملكه، بغض النظر عما إذا كان فقيرا أم ثريا. هذا بالنسبة إلى الحديث عن "البحر"، أما "اليابسة" فهي كما رأينا وكما يلي:

 

"جنائن هذه الأرض

خالية من الريحان

وتحمل أثقالها في كف السنين"[28].

 

وسيرا على هذه الخطى يجرد الناصّ اليابسة من دورها الإيجابي، فيتركها عارية سلبية شمطاء، لا يكاد يذكرها إلا معبرا عن وجه من وجوه الاستهجان والاستخفاف إن لم نقل الاشمئزاز. وهكذا إلى أن يصبح بإمكان البحر، في المقابل، أن يأخذ وضعية إيجابية في النص، لا لشيء إلا لما يفضي إليه من الحياة الأفضل الواقعة هناك على الضفة الأخرى. لم يترك اشتداد الحاجة، من الوقت، ما يكفي المهاجر ليدرك حجم الخطر الذي ينتظر انكبابه على وجهه بين أمواج الموت الهائجة. لا يملك من الوقت ما يكفي للتفكير في الجانب الرهيب لهذا "البحر".

لا وقت لاستيعاب وهضم مدى بشاعة البحر، بالنسبة لتلك القوارب المهترئة التي تسمى "قوارب الموت"، والتي أصبحت نسبة نجاحها، في نقل الركاب من ضفة الدنيا إلى ضفة الآخرة، تفوق ما تحققه من نجاح في العبور من ضفة هذا الوطن، المعبوث بمقوده ومنقاديه والمفسود في بلاده وعباده، إلى ضفة أحد الأوطان الصالحة لممارسة العيش الآدمي الكريم. فالوطن أصبح مخيفا لما بني عليه من ثقافة النبذ والإقصاء والإخلاء والإفناء والإخصاء، بحيث يصعب أحيانا أن تجد له معنى في نفسك. لا بل يحس المرء، أحيانا أخرى، بأنه لا شيء يربطه بالوطن، من هذا النوع، إلا كونه واحدا من المحتجزين أو المفقودين، أما الموجودون فهم تلك الطغمة التي تسهر على راحته (الوطن)، وإراحته من أنين وصراخ الفقراء والمنبوذين.

لم يعد غريبا أن يظهر البحر في صورة متمناة لما يفضي إليه من الخلاص، وإن كان عدوا من حيث ما يحمله، بين عبابه، من خطر الغرق المتواطس، والذي ابتلع من المنبوذين والمغضوب والمسخوط والمضحوك عليهم، في عقر وطنهم، ما يكفي لإشباع هيجانه. ومع ذلك يسأله الذين لا حول ولا حظ ولا قوة لهم: "هل امتلأت ؟" فيقول: "هل من مزيد"؟.

 

***

 ممنوع النسخ  وإعادة نشر هذا المحتوى إلا بعد موافقة المؤلف

هناك تعليق واحد: