كأنَّ إسرافيل قد نفخ
في صوره، وخرست أرواح الجميع. جثمت بناياتُ المدينة كقوم مدين، تتخللها أعمدة
كهربائية مطأطئة مصابيحها وكأنها تصلي على من غرق في الليل صلاةَ الجنازة، أو صلاة
الغائب. سكوت من شأنه أن يخيفك من كل شيء، حتى اليقظة، فيكفي أن تستيقظ وحدك لتشعر
بمدى فداحة أن ينتهي الجميع وتبدأ أنت من حيث انتهوا، ففي هذه الليلة الاستثنائية،
ليلة الإبادة الجماعية التي نفذها نوم هولاكيٌّ في حق الجميع سواي، لم أقتنع بأن
الذين ناموا سوف يعودون إلى الحياة كما كانوا دائماً.
لم أقتنع آنذاك بأنني
سوف أقتنع فور انبلاج الصباح بأنهم لم يموتوا هذه الليلة أيضاً، أو لم يكونوا
جادين في موتهم، فلطالما كانوا يموتون حتى شبعوا من الموت، ومع ذلك لم يمرّ بين
ظهرانيهم نهارٌ إلا ورأوه من أخمصي فجره إلى قمة غروبه، كأنهم ردارات الرب في
أرضه، فهم مبرمجون على مراقبة كل شيء، مبرمجون بالفطرة على أن يعيشوا مخابرين؛
يدرسون تفاصيل الآخرين أكثر مما يهتمون بأنفسهم، وكثير منهم يُكفِّرون غيرهم أكثر
مما يفكِّرون في أنفسهم، لكن ما يميز هذه الليلة عن سواها، أنني لم أعد أسمع حتى
سباب السكارى وشتائمهم الغليظة، ولا حتى بصيص ألم يئنُّ منه أحدهم.
لم أسمع صراخ رضيع، ولا
صرخة أولى لمن تمّ إنجابه للتو ربما، ولا آهات نكاح مشروع، ولا سفاح ممنوع، ولا دبيب العشاق، أو لصوص العواطف والمتع
الجنسية الذين كانوا كثيراً ما يستيقظون بعد نوم غيرهم كي يختلي بعضهم ببعض في
أدغال الليل. بدا لي أنه حتى قطاع الطرق انقطعت آثارهم، فقلتُ لنفسي لا بد أن تكون
ليلةَ قدرٍ إذن، حتى وإن كان رمضان مازال يجوب رمضاء السنة الجدباء نحونا على بعد
فراسخ زمنية مرهقة.
لا أحد، ولا شيء يبدو
حياً سواي. لئن كان للمدينة حاسة بصر، فلا بد أن أكون عينها الوحيدة التي مازالت
تنظر بها لترى ما يمكن رؤيته في أعالي الظلام. وحدي في أقصى غرب المدينة أكابد
أقسى غربة..أتمطط، وأتثاءب كعنزة كسولة أثناء قيلولة. أجتر السكوت والسكون. أوصوص
من خلال النافذة مثل جرو يخوض تجربة النظر لأول مرة. مازالت أعمدة الكهرباء مطأطئة
مصابيحها وكأنها لا تريد أن ترى شيئاً.
طفق يخفت ضؤها.. يكاد
يتغلب عليه الظلام المتدفق من جيوب حيّنا الشعبي الهامشي، حيث يسود السكن العشوائي
غير اللائق، وأنا بنفسي كنت في الواقع أطل من نافذة منزل مُستَكوَخ مبني وفق أحدث
ما توصّل إليه سماسرة البناء العشوائي وتجار العبيد الجدد، فلا ما أراه أمامي ضربٌ
من الدروب، ولا ذكرى شارع مرّ من هنا إلى غير رجعة، ولا ساحة عمومية للإعدام، فكل
ما يتراءى لي عبارة عن بقع سوداء كعيون تتفجر منها الظلمات لتسري في وديان
المدينة، فخيل إلي أن الظلام يخرج من هناك، وأنني من أقرب السكان إلى محطة توليده.
ما أصعب أن تعيش إذا
مات حولك الجميع. ما أبشع ألا تجد حتى من يذكّرك بأن الصمت ليس مخيفاً بالضرورة.
في منتصف الليل ذاك، اقتنعت بأن الموت أكرم لي من العيش إذا مات الجميع، حتى وإن
تركوا ممالك الأرض كلها في حوزتي. يا لها من غربة !. أنا الوحيد الذي مازلت أنازل الأرقَّ على أسوار النوم، حتى ذلك
الكلب الإمعة، الذي كان يستعين بدبره في النباح، خرس بدل أن يحرس ذلك الطابور
البارد من السيارات النائمة في "الباركينگ" المحلي.
نظرتُ إليه وكان
منكمشاً واضعا ذقنه على الأرض بين يديه الممدودتين يتكالب عليه الضوء والظلام
وكأنه جيفة بين طيور البجع والغربان. خيل إليّ أنه لم يعد كلباً حقيقياً، وإنما
أمسى مجرد نصب تذكاري، ليذكّر الناس وإياي بأيام النباح، أو يذكرنا بأن مكروهاً ما
قد حلّ بالكلاب المحلية ذات يوم في هذه المدينة الجرداء والجرباء.
حدقت فيه كما يحدق
التائه في شبيه لأخيه في الرضاعة. أحسست وكأني أنظر إلى الماضي.. كأني أنظر إلى
ماضيه وليس إلى حقيقة جسمه الماثل أمام السيارة المهترئة الأخيرة في صف السيارات
النائمة..تلك السيارة التي خرج منها العجب الرهيب بعد ذلك بقليل ! إنها سيارة من نوع "سيمكا" لم يسبق أن رأيتها تتحرك على
الطريق، وقد ظننت أنها صُمّمت من أجل الوقوف وحده.
إنها من طراز قديم جداً،
فكيف لا يسقط منها سائقها في الطريق إذا كان مازال بوسعها أن تتحرك أصلا؟. من هو
صاحبها؟ وكيف لم تتم مصادرتها حتى الآن، كونها خارج التاريخ وفاقدة للصلاحية منذ
عشرات السنين؟..بل حتى وإن أحياها الله بعد موتها، وأعاد إليها شبابها، فمن ذا
الذي يجرؤ على إخراجها من هذا المَركن؟ أكيد سيجرّ وراءه خيطاً من الضحك والسخرية
كطائرة نفاثة أينما حل وارتحل.
استبدّ بي الخوف. لم
يكن خوفي الحالي كخوفي المعتاد خلال سنوات نضجي، بل جاء كالبراغيث متطفلاً على
قلبي من زمن الطفولة، حيث كنت أشعر بالخوف حتى من أن أشعل الضوء، وكنتُ، إذا شعرت
بالخوف، أفضل النوم في العراء على أن أنام تحت سقف وبين جدران. لم أفهم حينها بأن
خوفي من داخل البيت يشير إلى أن الخوف كان مزيفاً، فهو يأتي من داخلي أنا، ولا
وجود لما يبرره في الخارج.. كأنني تأثرت منذ شتاء طفولتي بنظرية المؤامرات
الداخلية حتى نسيت بأن ما يأتي من الخارج يُفترض به أن يكون أكثر خطورة على الذات
مما هو ذاتيٌّ على كل حال.
تسللت نظراتي مثل
فراشات النار نحو الباب الخلفي لسيارة السيمكا، حيث كانت بقعة ظلام سوداء كالزفت
تحدق بي هي الأخرى، وعند ذلك خيل إليّ أن ثمة شيئاً قد بدأ يفتح الباب ويدفعه إلى
الخارج ببطء كما يحدث في أفلام الرعب..شُرع الباب، وخرج منه شبح كأنه رُسم بقلم
الرصاص وبشكل غير موفق.
ها هو يغلق الباب دون
أن يصدر أي صوت وكأنه في قاع البحر.. يتحرك ببطء في اتجاه منزلنا تماماً..يمشي
مشية الروبوت.. خيل إليّ أنه كاد يدهس الكلب فيخرج من فمه ودبره كل ما ابتلعه من
النباح وما كظمه من الغائط، ولكن الكلب لم ينبس بنبحة، وكأن تخديره قد اكتمل في
غرفة العمليات الجراحية.
عجباً؛ الكلب لم يعد موجوداً في الواقع، لكنه
مازال منكمشاً هناك !.. الشبح
يخرج من الواقع فعلاً، ويتحرك نحوي كظل ثلاثي الأبعاد ! يا إلهي ! هل كان
ينتظرني طوال الليل؟ وهل كان سيحدث ما حدث لو انضممتُ إلى قافلة النائمين وقضيت
نحب هذا الليل بشكل طبيعي كغيره من الليالي؟ وهل مازال بإمكاني تفادي الشبح لو
دفنت نفسي حياً في فراشي وتظاهرت بالموت؟ ولكن من يضمن لي بأن الأمر سيتم وكأن
شيئاً لم يكن؟ !.
ها هو يقترب.. يسير
نحوي أنا وبئس المسير. اتضح أنه يرتدي أو يرتديه ثوب أبيض مثل الكفن، فهل تحته
حزام ناسف لا سامح الله؟. تصورت أنني إذا فتحت باب غرفتي واستنجدت بأهلي، سوف
يزداد ذعري بسبب ردة فعلي، فآثرتُ البقاءَ في مكاني قرب النافذة وكأنني مشدود إلى
الشبح بحبل سري. أصبح قريباً من النافذة..على بعد خطوات..وعندما انتصب كتمثال بوذا
أمام النافذة، قال لي بصوت نحاسي كأنه كان يوماً صوتي، وكأنه يتحدث إليّ من قاع جوفي: "افتح
الباب !".
تراجعت إلى
الوراء..محتاراً أتلفّت يميناً وشمالاً..مذعوراً أتحسّس قفصي الصدري لأتأكد مما
إذا كان قلبي مازال يخفق هناك أم أنه طار إلى غير رجعة. وقبل أن أفلح في إغلاق
النافذة، دخل الشبح منها كالغبار، وقال لي بأعصاب هادئة وصوت واثق وكأنه لا ينتوي
اقتراف مكروهٍ في حقي: "لقد أدركتُ للتو بأنّ ما يخيفنا من الداخل ويدفعنا
للهرب إلى الخارج، إنما هو نابع من نفوسنا وقابع فيها، لأنه يخاف أن نواجهه في
عقور نفوسنا، وها أنا جئتُ لمواجهته فيك يا نفسي، فاطمئني !".
***
يُمنع إعادة نشر النص إلا بعد موافقة المؤلّف
غداً إن شاء الله ننشر القصة الثانية
تصبحون على خير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق