من التكثيف
الملحمي إلى التخفيف الروائي، عرفَ التاريخُ الأدبيُّ ظاهرة سردية دقيقة، وهي؛
خلافاً للشائع الذي بمقتضاه يتوجّه خطابُ الحكاية من السارد إلى متلقٍّ طبيعي
(القارئ)، يتوجَّه الساردُ بخطابه السردي إلى بطل روايته، ويقصُّ عليه أحداث
الحكاية التي يُفترض أن يكونَ ذلكم البطلُ قد مرَّ بها وعاشها، ففي هذا الصنف من
السرود يبدو السارد منفصلاً عن العالم المادي ومتصلاً حدَّ الاستغراق في عالمه
الورقي، حيث الكائنات السردية التي يجري المدادُ في شرايينها بدل الدماء، وعلى
مستوى الأدب العربي الحديث، قد نجد هذا الأسلوب واضحاً في أطول رواية عربية، وهي
"خرائط الروح" للروائي الليبي أحمد إبراهيم الفقيه، فيبدو جلياً أن هذه
"الخرائط" منسوجة على شكل الملحمة الإغريقية، مع بعض الفروق الدقيقة
التي سنذكر أهمَّها بعد قليل. والتساؤلات التي تطرح نفسها في ظل هذه المعطيات
كالتالي:
لماذا يلجأ
الروائي العربي إلى أسلوب الملحمة الإغريقية بعد هذه المدة الطويلة التي عرفها
تطور السرد الأدبي غربياً وعربياً؟. ما هي الأسرار والدلالات الثاوية في أعماق هذه
الظاهرة؟. إذا كانت الملحمة تكثيفاً- كونها جامعة بين الشعر والسرد- فهل معنى ذلك
أن الروائي العربي-صاحب "الخرائط" مثلاً- يريد أن يدفع الرواية-بعد
تخفيف سردها من الشعر- إلى طور التكثيف الملحمي مرة أخرى؟. من هذه التساؤلات ننطلق
في مقاربة هذه الظاهرة متخذين من المقارنة بين "خرائط الروح" والإلياذة
نموذجاً. لو عدنا إلى إلياذة هوميروس، لوجدنا مستهلها كما يلي:
"غني يا ربة الشعر غضبة آخيل، ابن بيليوس
وعواقبها، التي عادت بآلاف الويلات على الآخيين
وأودت بجموع غفيرة من أرواح الأبطال الباسلة إلى هيدز
وخلت أجسادهم ولائم شهية للكلاب والطيور
وتحقق وعد زيوس".
فمن خلال هذا المقطع، يظهر لنا أولا: أن الملحمة مكثفة، مضغوطة، جامعة
بين الشعر و الشرع والسرد، بمعنى أن هذا الأخير مرتبط بالدين، وبالتالي الشرع من
خلال ارتباطه بكائن أسطوري عملاق (ربة)، إذن فإن سبب الشعر هنا يتمثل في الشرع،
وسبب السرد يتمثل في تبيان مدى الارتباط بين قصائد الشعر ومقاصد الشرع.
ثانياً: على المستوى السردي، نجد أن ربة الشعر- باعتبارها بطلة روحية لتلك
الملحمة-إنما تناظر البطل الآدمي (أو الشخصية المحورية) في الرواية، وبالتالي، فإن
"آخيل"، ومن معه من الشخوص الآدميين في تلك الملحمة، يناظرون الشخوص
الثانويين في الرواية. وإذا كانت ربة الشعر بطلة روحية للملحمة كما قلنا، فهذا
يعني أن خطاب الحكاية الملحمية موجَّه إلى بطلها، أي أن هوميروس يقصُّ على ربة
الشعر أحداثاً يُفترض أن تكون هي على علم بها سلفاً، إن لم تكن قد خاضت غمارها
بالفعل فهي مطلعة عليها بوصفها "ربة".
وما دامت هذه الأخيرة تعلم بما جرى على كل حال، فلهذا
نرى أن "السرد" لا يكفي وحده في الملحمة، فالمطلوب من السارد (هوميروس)
هو أن "يُعيد" سرد تلك الأحداث في صيغة شعرية كي تبدو شرعية.
إن لسان حال هوميروس كان يقول: "أيتها
الربة العظيمة، بما أنك ربة للشعر، فأنا مستعد لأقصَّ عليك ما حدث لآخيل ومن معه
ومن ضده بلغتك الشعرية"، فهذا وحده ما يبرر إقدام هوميروس على
"سرد" حكاية الملحمة بالنسبة إلى
ربة الشعر؛ لقد كان عليه أن يخاطبها بلغتها لكي تهتم بسماع ما جرى، فلو
اكتفى بالسرد لبدا وكأنه يهذي ويكرر على مسمع ربة الشعر ما يُفترض بها أن تكون قد
اطلعت عليه، ولكن الهذيان في حضرة الآلهة ليس مجرد خطأ، بل خطيئة، وهنا يلتقي
الشعر بالشرع.
وبما أن الرواية نزلت بالفعل السردي من الطور
الأسطوري، ذي الطبيعة الربوبية، إلى الطور التاريخي ذي الطابع الآدمي- بعد انفصال
الشعر عن الشرع - كان على مُقلّد أصحاب الملاحم أن يخاطبَ بطل قصته الآدمي الذي
حلَّ محلَّ ربة الشعر الإغريقية القديمة، ولكن، في نفس الوقت، يجب على المقلِّد
الحديث أن يبرِّر لنفسه وللمتلقي سبب لجوئه إلى ذلكم الأسلوب، على أن هذا "التبرير"
قد يأتي تصريحاً، وقد يأتي تلميحاً. قد يكون لفظياً، وقد يكون إيحائياً. أو قد
يُعتَمد في إضماره على خبرة المتلقي إثراءً للتشويق واستفزازاً للتساؤل، وتأجيجاً
لفضوله في اقتحام مجاهيل النص والبحث عن خفاياه،
وذلك قد يكون تأكيداً من السارد لقدرة النص على الإظهار والإضمار.
في "خرائط الروح" يمكننا القول بأن
التبرير السابق ذكره مضمر، ففي مستهل
الرواية الأولى من تلك الملحمة، والتي تحمل عنوان "خبز المدينة"، نقرأ
ما يلي: "فلماذا يفزعك أن يعود
إليك الماضي ليأخذك أسيراً مغلولاً بالأصفاد إلى أرضه الموحشة الموحلة التي تركتها
هارباً؟". من هنا يبدأ استدراج السارد للبطل نحو الأحداث الرهيبة التي
عاشها في الماضي، وهي الأحداث التي أُريدَ لها أن تكون موضوعاً لهذه الرواية، فكأن
البطل يمكنه أن يُضرب عن التفكير في تلك الذكريات الفظيعة، مما يعني إحجام السارد
عن سرد حكايته، ولكن يبدو أن البطل كان قد بلغ من الشقاوة ما حدا به عن النسيان
المريح وزجَّ به في الماضي المريع.
يقول سارد هذا الخبز (أي خبزالمدينة): "تعطَّل
حدسك فما كنت تستطيع أن ترى وتسمع غير شيء واحد؛ خطى السياف وهي تقترب منك محملة
بنذر الموت ورأسك مقطوعا بعد قليل مثل رؤوس رفاقك الذين سبقوك منذ دقائق إلى هذا
المصير". هنا بيت القصيد؛ إن مفتاح السر يكمن في قوله "الرأس"،
لأن قطع الرأس، بقدر ما يؤكِّد فقدان الحياة، يرمز إلى فقدان الذاكرة أيضاً. نعم، هنا
يأخذ قطع الرؤوس دلالة رمزية قوامها؛ انفصال طبقة بشرية عن عقلها ونقلها معاً، واتصالها بعقل غيرها الذي اعتقلها، ونقلِه الذي
نقلَها من حالة التذكُّر إلى حالة النسيان. ولتأكيد هذا المعنى، سنأخذ قول السارد
قبل وصوله إلى قطع الرؤوس، حيث كان يتحدث عن حاضر البطل: "بعد لحظات سيطلع
الفجر ويشعل في الأفق حريقاً هائلاً يأكل ظلمة الليل وسيرتفع من المآذن النداء
الذي يدعو الناس إلى صلاة هي خير من النوم". ويسهب السارد، على هذا
النحو، في وصف ما يمكن أن يأتي به النسيان من البهجة والسرور انسجاماً مع مظاهر
الحياة الجذابة ومناظر الطبيعة الخلابة: "ويبدأ مشهد الافتتاح ليوم جديد
تتطلع نفوس الناس لما يحمله من مستجدات عداك أنت يا عثمان الحبشي".
وإذ نتساءل؛ لماذا؟. يجيبا السارد مخاطباً بطل
روايته: "لأن الماضي يأبى أن يغادر عقلك وقلبك معلقاً بأهداب عينيك يصادر
حقك في أن تحدق إلى المستقبل ويمنعك من أن ترى سواه، لقد صار الماضي حاضراً يملأ
عليك لحظات النوم واليقظة برعب الكوابيس". إذن، فإن بطل الرواية لم يفقد
رأسه ولا ذاكرته، وإنما أراد السارد أن يخاطب فيه غيره؛ أولائك الذين لم يغادر
الماضي عقولهم، ولم تعد عقولهم معلقةً بأهداب عيونهم، إذ لم يصادر (ذاك الماضي) حقَّهم
في أن يحدقوا إلى المستقبل، ولم يمنعهم من رؤية سواه ! وبناءً على ذلك، فإن رفاق عثمان الحبشي الذين فقدوا رؤوسهم تباعاً، إنما
يمثلون- رمزياً- ذلك القوم (المتلقي) الذي يخاطبه السارد في ذات بطله، لأن أفراد
ذلك القوم هم الذين فُصلت رؤوسهم عن أجسادهم داخل النص، وهم الذين فُصل ماضيهم عن
حاضرهم خارج النص.
إذا كانت الشعرنة هي ما يُشرِّع "سرد"
أحداث الملحمة لربة الشعر، فإن افتراضَ فقدان الذاكرة هو ما يُشرِّع سرد أحداث
الرواية لبطلها. إنك لا تجرؤ على أن تخبرني بتفاصيل سيرتي إلا إذا كنتَ تفترضني
فاقداً لذاكرتي، ولكن الأمر ليس بهذه البساطة في الرواية، ذلك لأن سارد خبز
المدينة يتخذ من بطله ممثلاً باطنياً للمتلقي الفاقد لذاكرته، المفصول رأس حاضره
عن بدن ماضيه. فمن هنا يكون السرد حافزاً على تذكُّر المتلقي لما كان موضوعاً
لتنكُّره. وبما أن البطل لم يفقد ذاكرته على مستوى منطق النص، فهذا يعني أن السارد
يفترض بأن سرد حكايته لغيره لم يعد مجدياً، لأن هذا "الغير" لم يفقد
ذاكرته فحسب، وإنما فقد عقله أيضاً بعد اعتقاله ونقله ممن يكون إلى من يجب أن يكون
وفقاً لإرادة رواد الإرهاب والإغراب، وهذا المعنى يتأكد لنا من خلال قول الناصّ:
"ها هو الماضي يعود إليك يا عثمان الحبشي يغمرك بأمواجه السوداء كبحر من القار
يحاصرك ويبسط نفوذه على ساعات نومك ويقظتك ويأخذك من أرضك وزمانك إلى أرضه وزمانه
وهو بمثل ما فعل عندما انتزعك من جذورك وأخذ منك لقبك ونسبك وأعطاك نسبا حبشيا".
إذن، واضح أن حاضر البطل عثمان لم يأتِ مجانياً، بل كلَّفه خسارة من يكون، إذ كفله
من أراده فاقداً للذاكرة، وتلك هي التجارة التي أُجبر فيها عثمان على أن يشتري
الهاوية بالهوية.
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق