الفصل الأول من كتابي النقدي المسمى بين ضفة السراء وضفة الضراء-مقاربة سيميائية
توطـئة
تحت هذا العنوان الدلالي"بين ضفة السراء وضفة الضراء"، سنجري دراسة سيميائية لديوان شعري بعنوان "هم الآن يكنسون الرذاذ"، من تأليف الشاعر المغربي بن يونس ماجن[2]. يتألف الكتاب من 64 صفحة من الحجم المتوسط، وهو يبدو عبارة عن قصيدة واحدة طويلة، لا يفصل بين مقاطعها سوى الأرقام التي حلت محل العناوين الفرعية الموجودة عادة في باقي النصوص الأخرى، سواء كانت شعرا أو سردا الخ، ورغم ذلك فإن القراءة الفاحصة تبين لنا بأن الديوان ليس عبارة عن قصيدة واحدة، وإن كان يبدو كذلك في ظاهره، بل هو مجموعة من القصائد متداخل بعضها مع البعض الآخر بشكل شبه عشوائي أحيانا. وعلى كل حال فسأحلل هذا الديوان باعتباره مجموعة قصائد متداخلة لعلاقة ذلك بمختلف البنى النصية كما سنرى لاحقا. يشتعل النص تشاؤما، بلغة نارية أليمة متألمة، كما يتضح لنا من خلال صور متتالية من النبذ والإقصاء واليأس والحرمان الذي لم يترك معنى إيجابيا لشيء يذكر، سواء في عالم الغيب أو الشهادة، لدرجة أن ذلك ربما أثر أحيانا حتى على البعد الفني للنص، وذلك من خلال بعض التوجه إلى نوع من الطرح المباشر على حساب الطرح الفني. ومن جهة أخرى نجد أن السردي قد أثر على الشعري، مما جعل هذه النصوص عابرة للأجناس، فهي سردية وشعرية نثرية، في نفس الوقت، وعبارة عن خواطر في بعض الحالات. يختلط الإيحائي بالتقريري، والمعقد بالمبسط، ليشكل الناصّ لوحاته الأدبية التي توحي بتداخل مجموعة من العوالم، كنتيجة لتكسير مجموعة من القيود والقيم والمفاهيم. تمتد مفردات النص في مسار سيكولوجي تشاؤمي بامتياز، ولا تفتأ تنجرف دائما في مسار منحن، حيث لا ينطلق الناصّ من ملامح البناء إلا وانتهى إلى ملامح الهدم، فكأن ظاهر النص مشغول بتصوير أفعال القدر الناخر في جسم الموضوع، دون أن يترك له ذلك ما يكفي من الوقت ليلمح إلى افتراض غد أفضل من اليوم الأرذل. بيد أن هذا القدر، الذي يعكسه الديوان، لا يبني إلا من أجل أن يهدم ! وبهذا نرى أن حركة النمو للنص تبدأ من النقطة العليا لتنتهي إلى النقطة السفلى، وهكذا إلى أن انتهى بالنص إلى أسفل سافلين، وختم بالعنوان التالي: "هم الآن يكنسون الرذاذ"، مما يدل على أن هؤلاء الشخوص، المكتوب عنهم، لم يحققوا أي تقدم في النهاية، بل، على العكس من ذلك، نراهم قد حققوا تقهقرا وتخلفا، وهو ما يوحي وكأن اللحظة التي بدأ فيها الكتابة كانت أفضل من اللحظة التي ختم فيها. لقد اختار الناصُّ أكثر الطفولات تعاسة، وجندها لتلعب أدوارها الدائرة في حلقة مفرغة، وكأن هذه الحياة، التي يعكسها النص، ما هي إلا ورطة كبرى لا خروج منها حتى من خلال الموت نفسه. صحيح أن الكتاب يحمل جنسية شعرية على لوحة غلافه، ولكنه، في الواقع، ليس كذلك تماما، فبكل بساطة أقول بأنه مجموعة نصوص أدبية، تقوم على الخلط بين السردي والشعري النثري والخاطرة الخ. وكأنه، بهذا الشكل، يحاكي الطفولة الضائعة التي يكتب عنها الشاعر، على مستوى المضمون، والتي لا هوية ولا تعريف ولا وطن ولا أهل ولا عائلة ولا أب ولا أم لها. إذن، فهذه النصوص تطوف فوق الحواجز التجنيسية، ولا شيء يجعلها تبدو شعرا متواصلا إلا اقتلابها الأعمدة. ورغم أن الديوان يتكون من قصائد متداخلة، كما قلت، إلا أن ما يعطيه موضوعا موحدا هو كونه يدور حول الطفولة الضائعة باختصار. حتى الحقل الدلالي الذي أسميه "السراء" لا يعني انطواء النص على رغد العيش والأمل والفرح، في مقابل شظف العيش والألم والقرح، بل كل ما في الأمر أنه ينطلق مما هو أقل سلبية لينتهي إلى ما هو أشد سلبية.
نظرا لكون القراءة السيميائية ذات مفهوم شبه مطاطي، أود أن أشير بسرعة إلى طبيعة القراءة التي سوف أعتمدها من خلال هذا الكتاب. يشير بعض الباحثين إلى أن القراءة السيميائية تقوم على افتراض أن النص الأدبي خاضع لمجموعة من البنيات. وكما أشار الدكتور جميل حمداوي أنه "إذا كانت البنية السطحية تعنى بالدلالات المعجمية الكبرى، فإن البنية العميقة تهتم بالمعاني السيميولوجية والدلالية النووية والسياقية"[3]. وباختصار، يمكن القول بأن أكثر هذه البنيات سطحية هي البنية الخطابية، وأكثرها عمقا، في المقابل، هي البنية المنطقية، حيث يتكثف النسيج الدلالي، للنص الأدبي، ليتجلى في مجموعة من الدوال (المفردات) والتي تتخذ أوضاعا متمردة، داخل السياق الخطابي، مما يدفعنا كقراء للبحث عما يقف وراء هذا التمرد والسعي، ليس إلى استيعابه فحسب، وإنما إلى تحليله وتعليله وتلطيف كثافته، ثم إعادة تركيبه حسب الإمكانيات القرائية المتاحة.
عندما نقوم بقراءة سيميائية فإنما ننطلق، باختصار، من الخطابي إلى المنطقي. ولعل تلك هي ترجمة الكتابة الفنية (المتخيلة) إلى الكتابة المباشرة (المعقولة). إن النص الأدبي، بناءً على هذا المبدأ، ينطلق، في نموه، من أعمق نقطة (منطقية) تشكل جذره الدلالي العام والعميق، وينتهي إلى أكثرها سطحية، وهي المستوى الخطابي. ولقد رأى غريماس "أن الدراسة التحليلية الدقيقة للنص إنما تتم من خلال مستويين، المستوى السطحي والمستوى العميق الذي نحدد من خلاله البنيات العميقة التي"تحدد الطريقة التي يكون عليها الوجود الأساسي لفرد أو لمجتمع، وبالأحرى وجود الموضوعات السيميائية، فما نعرفه هو أن المكونات الأولية للبنيات العميقة وضع قابل للتحديد"" [4]. ولقد فصل في ذلك النقاد بصيغ مختلفة، على أن القارئ المهتم بمقدوره أن يخلص إلى هذه المسألة، من خلال تتبعه الخط النظري للتراث السيميائي، وإن كان التطبيق القرائي للسيميائيات يأخذ مسارات متعددة مطاطية، كما أشرت، تختلف بين ناقد وآخر لدرجة أنه ربما هناك من يطلق هذا المصطلح حتى على القراءة الشارحة للنص الأدبي، والتي أتمنى أن يكون باستطاعتي تجاوزها من خلال هذه الدراسة المتواضعة. أقول هذا لكي أوضح، ولو بإيجاز، أن القراءة السيميائية، التي أنتوي التسلق على أسوارها، لا تكتفي بشرح النص أو استخراج العناصر الجمالية التي ينطوي عليها، بل تحاول النفوذ إلى المستوى التجريدي المتحكم فيما هو محسوس وملموس داخل النص، ألا وهو المستوى المنطقي حيث يتناغم المخيول مع المعقول إن جاز التبسيط.
بعد أن قرأت ديوان "هم الآن يكنسون الرذاذ"، للشاعر بن يونس ماجن، خلصت إلى أن الصورة العامة التي يمكن استخراجها منه تقوم على حقلين دلاليين عامين، وهما "ضفة السراء" و"ضفة الضراء" كما أسلفت. المقصود بالضفتين هو إحدى الضفاف الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، والتي لها دور هام في كونها تشكل نقطة انطلاق الناصّ نحو إحدى الضفاف الشمالية للبحر المذكور. بما أن هناك انتقالا من ضفة إلى أخرى، فسنجد بأن الضفة المنطلق منها تشكل "ضفة الضراء"، وأن الضفة المنطلق إليها تشكل "ضفة السراء"، كما سوف يتبين لنا لاحقا كيف تفرعت الضفتان، وتغلغلتا في كثير من مكونات النص، بحيث قسمتها إلى حقلين دلاليين؛ وهما "حقل السراء" و"حقل الضراء"، فهذه هي الصيغة الدلالية العامة التي تحكم الديوان، ويمكن القول بأن كل التقنيات التي استغلها الناصُّ، في إنتاج النص، نجدها شبه مبرمجة لتؤدي رسالة التكهرب القائم بين حقل "السراء" وحقل "الضراء"، والإشكال الفاصل بين الحقلين، والحائل دون التمكن من إماطة ما تيسر من الظلام عن نظرة الناصّ إلى كل من الحاضر والمستقبل، وهو لا يقوم باسترجاع شيء مما مضى وانقضى إلا ليستدل بانقضائه، وخيبة المقضي على آلة تفاؤله، على ما ينتفخ به بطن الحاضر من غازات التهميش السامة، وما يحمله المستقبل من بضاعات العدل والمساواة، والإنصاف الذي لا يقدر على دفع ثمنه إلا تلك النخبة النمطية من أوثان المجتمع الجاثمين على صدر هذه الحضارة الافتراضية. فهم صفوة الصفوة، في مقابل أطفال الكبوة والنكبة الذي يتحدث عنهم الشاعر. انطلاقا مما تقدم تتذبذب مكونات النص البنائية والدلالية لتنتج نصا موازيا باطنيا، لا نرصد منه، خلال قراءة النص الظاهر، إلا ما يتجلى في ذلك النطاق الذي يلتقي فيه المُظهَر مع المُضمَر، ويمتزج فيه المذكور مع المحذوف كما يتعاقب فيه التقريري مع الرمزي/الإيحائي الخ.
***
الفصل الأول
البحر والمطر:
"وتحت العرش بحر ينزل منه أرزاق الخلق والحيوان يوحي الله إليه فيمطر ما شاء من سماء إلى سماء حتى ينتهي إلى موضوع يقال له الأبرم. فيوحي إلى الريح
فتحمله إلى السحاب فتغربله".
المسعودي [5].
هذا مقتطف من إحدى الأساطير التي تدور حول البحر، أدرجته لشبه انطباقه على ما تعكسه هذه النصوص من العلاقات القائمة بين "البحر" و"المطر"، وهي العلاقات التي نستوحيها من خلال التغلغل الممكن في سراديب النص، حيث يتبين لنا بأن نقطة الالتقاء بين الدالين "البحر" و"المطر" تقوم على استبطان البعد "المائي" بغض النظر عن التفاصيل والتفاريع التي سوف نأتي على ذكرها واحدة تلو الأخرى. هنا نأخذ مثالا، من الأمثلة الكثيرة على مكانة "الماء"، في الفكر الأسطوري القديم، وهو ما أشار إليه الدكتور محمد عجينة. فبعد أن عرض هذا الأخير ما يكفي من العلامات على ذلك قال:
"إن تغلغل هذه المعاني المتصلة بالماء في ضمير الإنسان، إنسان الحضارات القديمة هو الذي يفسر لنا لماذا قدس الساميون المياه ومواردها من عيون وأبار ولماذا أنشئت حول أول من احتفرها بعض الأساطير ولماذا نصبوا عندها أصنامهم مثل هبل وكان "في بطن الكعبة على الجب" ومثل آساف ونائلة" وكانت زمزم مطمورة بينهما"[6]. وطبعا لست بصدد الاستشهاد على تقديس الماء، في هذه النصوص، وإنما أحاول تقريب القارئ مما لهذه المفردات "البحر" و"المطر" الخ من وزن على الصعيدين؛ المرجعي والنصي، ولهذا اخترتها كمفاتيح يمكن استخدامها في فتح البوابة السرية التي تفضي إلى بعض الخفايا الكامنة في قاع النص، ولقد جاء هذا الاختيار بعد كثير من الغوص في هذا الديوان "هم الآن يكنسون الرذاذ"، وهو الديوان الذي يمكن قراءته في ظرف زمني لا يتجاوز الساعة الواحدة. الأمر لا يتعلق هنا بتقديس الماء، ولا حتى الاهتمام به، في حد ذاته، بل يتعلق بما يرمز إليه من الأبعاد الإيجابية لهذه الحياة؛ وهو ما يصب في حقل "السراء" الذي يقابل حقل "الضراء"، كما سوف تتضح لنا الأوجه الممكنة لذلك.
بعد حيز التوطئة، الذي أعتقد بأنه قد أعطى القارئ فكرة أساسية عن الجو العام لديوان"هم الآن يكنسون الرذاذ" للشاعر المغربي بن يونس ماجن، سأحاول تحليله مشيرا إلى أمثلة ملموسة، مما ورد في النص المنقود، من أجل تعزيز الاستدلال على ما يصب في موضوع هذه القراءة. فبعد أن نتفحص تجليات هذه المنظومة من الألفاظ، يتبين لنا بأن الفكرة الأساسية التي تعطي تشكيلة ممكنة للبرمجة الدلالية، أو البنية المنطقية التي تقف وراء هذه المنظومة (النصوص)، والتي تتحكم في مستواها الظاهر من خلال تموقعها في مستواها العميق، تتمثل في التمركز حول معاناة الأطفال، والتهميش والنبذ الذي يتعرضون له.
عندما يستعمل الناصّ ضمير المتكلم، في حديثه عن معاناته والويلات التي مر بها، أو يفترض أنه مازال يكابدها، فهو يكاد لا يفوته أن يسجل ميلا واضحا، في خطابه، نحو تخصيص الحديث للمعاناة والويلات التي عاشها كطفل، وليس كشخص مفتوح على كل مراحل عمره بشكل مطلق. وهكذا نكاد لا نجده يتحدث عن مشهد سلبي إلا وقد سجل حضوره كطفل، وبالتالي كواحد من مجموع الأطفال الذين يشكلون الموضوع الأساسي لهذه الباقة من النصوص. بما أن هذه الأخيرة تحمل ما يجعلها عابرة للأجناس الأدبية، من خلال المزج بين السردي والشعري الخ، فلقد اخترت أن أبدأ باستخراج البعد الحكائي أولا لما له من دور في إنارة السراديب النصية التي سنسلكها بحثا عن أعمق الخفايا الدلالية والرمزية الممكنة.
عندما نقرأ هذا الديوان نحس وكأن الناصَّ قد تحرك من الشعري نحو السردي (= حركة نصية)، نتيجة لتحرك الشخصية المحور من نقطة إلى أخرى(= حركة مرجعية) على مستوى الواقع المفترض. وبذلك نجد، في هذه النصوص، وكأن الجانب الشعري قد تمت تغذيته انطلاقا من رصد المشاهد التي مرت بها الشخصية النصية في سفرها. كأن الشعري تولَّد نتيجة احتكاك عناصر الحكائي مع بعضها على المستوى المرجعي، خاصة في بعض المواطن، وربما هناك علاقة بين الحكاية والسفر لتوفر الاثنين على عنصر الانتقال من نقطة إلى أخرى. فعندما نقرأ حكاية معينة نجد أنها عبارة عن أحداث متلاحقة عبر الزمان النصي، وهو نفس ما يحدث للمسافر الذي يمر بمشاهد وأحداث يأتي الواحد منها تلو الآخر في طريقه. سنلقي نظرة على واحد من أكثر المقاطع التي تمثل الخروج عن الشعري، والدخول في السردي حيث يقول الناصُّ:
"وفي زمن الحصار
آه كم أتوق إلى رشق الطغاة
بالحجارة والمقاليع والسهام
قد صار للبحر ثمالات شفافية
وما زلت أبحث عن ظلي
بين شظايا الغروب
وغياهب الرياح
وعلى الضفة الأخرى
يتكسر حلمي الوحيد
سعيا إلى حياة أفضل
خلف أسوار الشمس
وأعود إلى حلبة الموج الثائر
أختفي بين حمولة سمك السردين والطماطم
وكنت أحتضر واقفا
أما رفيقي فكان يموت مختنقا
قبل تفريغ الحاوية عند الساحل الآخر
ومنذ زمان وأنا أركض خلف السراب
محملا ببقايا الصبار"[7].
من خلال هذا المقطع تظهر لنا نافذة سردية تكاد توضح الحدث في إطاره الزمني (بل حتى المكاني) على حساب الشعري بطبيعة الحال. رغم أن الفرق بين السردي والشعري يمكن لأي قارئ للأدب أن يدركه، فلا بأس من الإشارة إلى أنه حتى بالمعنى المورفولوجي يمكن القول بأن هذا المقطع يعتبر واحدا من المظاهر السردية التي تنتشر في هذا الديوان. على سبيل المثال، نجد أن فلاديمير بروب، بعد أن يحدد أحد أركان القصة وهو "الابتعاد " éloignement الذي يشار إليه بالرمز (-ß )، يقول في حديثه عن الشخصية القصصية:
"والأشكال المألوفة للابتعاد هي السفر إلى العمل، أو الغابة، أو التجارة، أو الحرب، أو الاهتمام بشؤونه..."[8]. والحق أنني لا أريد أن أجري لهذا الديوان تحليلا سرديا، بغرض استخراج ما يجعله سردا، لأن ذلك يعني أن هذه الدراسة ستكون طويلة جدا. هذا بالإضافة إلى أن ذلك يتطلب مجالا ووقتا أكثر مما هو متاح أمامي الآن. ولكن لا بأس من الاكتفاء بتحليل الكتاب على أنه سردي من العيار التجريبي المشعرن، دون التوقف على استخراج كل المظاهر التي تجعله نصا سرديا.
في المقطع السابق نجد الناصَّ يتحدث عن محاولة عبور(سفر= الابتعاد éloignement) غير شرعية من بلد إلى بلد آخر، وكأن المقصود بالتحديد هو العبور، غير المشروع، من الضفة الجنوبية (إحدى السواحل المغربية المقابلة للسواحل الأوروبية الجنوبية) إلى الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط، وذلك بالنظر إلى السياق العام المؤسف الذي يحكم شريحة واسعة من أبناء هذا البلد (المغرب)، والذين يضحون بأرواحهم من أجل العبور إلى إحدى البلدان الأوربية، وعلى رأسها "إسبانيا"، باعتبارها البوابة الرئيسية والضفة الأقرب إلى بلدنا الذي نستشف الإشارات إليه من خلال حديث الناصِّ أعلاه. إذن، فالمقطع يتحدث عن رحلة قام فيها العابرون بركوب إحدى العربات، أو الشاحنات المحملة بالبضائع، والمتجهة نحو تلك الضفة الأخرى. وكما نرى أن الناصَّ كاد يموت في هذه المركبة، حيث أنه كان يحتضر واقفا، وهذا يدل على أنه وصديقه لم يجدا مكانين كافيين حتى للجلوس في هذه المركبة المحملة بعلب السردين والطماطم كما قال. أما صديقه فقد كاد يموت من الاختناق، ولحسن ما تبقى من الحظ أن الشاحنة قد تم إفراغها بعد أن وصلت إلى الضفة الأخرى قبل أن يموت، وبذلك تمكن الاثنان من النجاة.
ومن جهة أخرى نجد هذه الأقصوصة تقوم على المزج بين الأزمنة الحكائية، حيث نرى أن الناصَّ، في المقطع الأول، كان يحكي الأحداث وفق الترتيب الزمني المرجعي، وذلك ابتداء من قوله:
"وفي زمن الحصار..."
فمن خلال الاطلاع على باقي القصة، نفهم بأن المقصود بالحصار هو الحصار الذي تفرضه شرطة الحدود على المهاجرين غير الشرعيين، أي حرمانهم من العبور إلى الضفة الأخرى. يبدو كأنه يحكي لنا سلسلة من المحاولات الفاشلة التي تم إحباطها على أيدي هؤلاء الشرطة الذين يستحقون الرجم بالمقاليع والسهام و..كما قال. ولقد كان هذا قبل أن ينجح، هو وصديقه، في ركوب العربة أو الشاحنة التي نجحا في العبور بها إلى ضفة "الحياة الأفضل" (ضفة السراء) رغم إشرافهما على الموت اختناقا. ولكن سرعان ما أعمل الزمان النصي، وألغى الزمان المرجعي، عندما قال:
" ومنذ زمان وأنا أركض خلف السراب
محملا ببقايا الصبار"
لأنه بهذا عاد بنا إلى ما قبل القيام بالسفر ( إلى تلك الضفة الأخرى)، والتي توجد فيها حياة أفضل على حد تعبيره. بعد أن عبر، والحمد لله، صار يتحدث وفق زمن آخر، مسترجعا أحداث ما قبل عملية العبور، وذلك باستطراده قائلا:
"وهناك على الخصلات
كنت أخطب ود البحر
حيث تنبت الوعود الوهمية فوق الرمال"[9].
بما أن للبحر علاقة بالعبور نحو ما سماه "الحياة الأفضل"، فكثيرا ما نجده يرمز للثراء (= السراء)، والخلاص من الفقر في مختلف أنحاء الديوان. إن ما يبدو جليا هو أن البعد الحكائي لهذه النصوص، والذي يصور لنا الناصُّ من خلاله مشاهد المغامرة التي سجلها في صفحة تاريخه البطولي، أثناء سفره، قد تفرع وسجل انفتاحا رمزيا على بعض المفردات، وعلى رأسها كلمة "البحر". أضف إلى ذلك أن هذه الأخيرة وردت بكثرة في هذا الديوان. إن لحضور "البحر"، في هذه النصوص، إشعاعات تجعلنا نسلك أقصر وأسهل الطرق التحليلية للوصول، ليس إلى تفكيك وفهم المتن بعمق فحسب، وإنما تساعدنا على تفكيك وفهم العنوان أيضا في ضوء علاقته العميقة بالمتن، وسوف يأتي الحديث عن ذلك، من خلال الفصول القادمة، أما الآن فسأركز على نقطة محددة، دون تكثيف الحديث والغرق والإغراق في تحليل متعدد لنقاط متعددة، في آن واحد، مما قد ينعكس سلبا على مقروئية هذه الدراسة. سنتقدم بالتدريج من البسيط فالعميق فالأعمق إن شاء الله.
في الصفحة السادسة والثلاثين يقول الشاعر:
"إن الخارجين من رحم البحر
والعائدين إليه
سوف لا يرثون محار الشط الآخر
هم ينبشون ذاكرة الصخور
أما أنا فكيف سأطفئ عطش المغامر
والسماء قلما تمطر في الوجوه الشاحبة"[10].
يقول بعض النقاد بأن "الكلمة أصغر وحدة مستقلة للغة، تشير إلى نوع معين من حقيقة فيما وراء اللغة (أي المعنى) وتتميز بخاصية شكلية( صوتية وصرفية) ودلالية، فهي تمتلك معنى حقيقيا Actuel، بوصفها عنصرا في السياق Composant de contexte ومعنى كامنا Potentiel بوصفها عنصرا في نظام الجمل Lexical system " [11]. على هذا الأساس أتناول بعض المفردات الواردة في هذا الديوان، وعلى رأسها كلمة "البحر". فعندما نقرأ الشطر الأول، من المقطع السابق، نجد وكأن الناصَّ ينظر إلى "البحر" نظرة سلبية، بشكل أو بآخر، خاصة من خلال قوله "العائدين إليه"، مما يوحي بأن الأمر يتعلق بمجموعة من الغرقى، إلا أن ما يأتي بعد ذلك يشعرنا بالعكس، فكأن موت هؤلاء (العائدين إلى رحم البحر) أفضل مما تعانيه شخصية المتكلم (المتواجد على يابسة ما)، وكأن عدم إرثهم محار الشط الآخر يجعلهم أفضل منه ، فهو يقول:
"أما أنا فكيف سأطفئ عطش المغامر
والسماء قلما تمطر في الوجوه الشاحبة"
إن الرمزية الإيجابية لكلمة "البحر" مستترة حتى فيما يشار إليه بما يبدو سلبيا. كأن الخطاب قد تم تقسيمه إلى تلبيغ رسالتين معا؛ السلبية والإيجابية لهذا "البحر"، على أن الوجه السلبي قد تم إلغاؤه بأن صيره الناصُّ بديلا لمن اشتعل عطشه. لماذا؟
لأن "السماء قلما تمطر" بالنسبة إليه. إذن، هناك علاقة بين مفردة "البحر" ومفردة "المطر"، على المستوى الدلالي، وهذه العلاقة تتمثل في أن كلا الدالين (البحر والمطر) يشيران إلى مدلول واحد، من خلال البنية العميقة للنص، ألا وهو (الماء) ! لاحظ أن "البحر"، وإن كان "يُركب" من أجل العبور إلى حياة أفضل (على مستوى البنية الخطابية)، فهو "يُشرب" كذلك من حيث هو ماء مبدئيا (على مستوى البنية العميقة). وسأشير بعد قليل إلى "الملوحة" التي تجعله (رغم ذلك) ماءً غير قابل للشرب، وكيف تم أخذ ذلك بعين الاعتبار المنطقي الذي يربط النص بالطبيعة نوعا ما. إذن، فكلمة "البحر" تدل على"الماء" وكلمة "المطر" كذلك تدل على "الماء".
ملاحظة: حين أقول: "البنية السطحية" مقابل "البنية العميقة" مثلا فلست دائما أقصد التربيع السيميائي التقليدي، أي ما يسمى المربع السيميائي، بل سأحاول، طوال هذه الدراسة، أن أبسط هذا التضاد والتقابل بين البنى النصية بشكل تطبيقي محسوس، على أني سوف أشير إلى المربع السيميائي في نهاية الفصل السابع من هذا الكتاب.الملحوظ أن الناصّ بعد أن ذكر البحر، كما رأينا، أردف قائلا:
"أما أنا فكيف سأطفئ عطش المغامر". فالأمر يتعلق بما تم تشبيهه بالعطش، وهو الحاجة التي تدفع المهاجر لركوب البحر (= شرب المطر)، بغرض الوصول إلى الضفة الأخرى (= إطفاء العطش)، حيث يمكنه أن يتخلص مما يعانيه من العوز (= الضراء) الدافعين له إلى ارتكاب هذا النوع من الهجرات (= تحقيق الارتواء) على حد السياق الذي يتحدث فيه. ما دام الأمر يتعلق بالـ"عطش" فمن المعلوم أن الماء هو نقيض العطش، وأن كثرة الماء تعني قلة العطش، كما أن قلته تعني كثرة العطش، فبالإضافة إلى المقارنة بين البحر (= الماء الكثير)، والمطر (= الماء القليل)، نرى أن الناصَّ قد أكد على قلة الماء (نقيض العطش)، في حديثه عن "المطر"، وذلك من خلال قوله: "والسماء قلما تمطر في الوجوه الشاحبة". بما أن السماء قلما تمطر في الوجوه الشاحبة، وأن الشخصية المتكلمة هي واحدة من هذه الوجوه الشاحبة، فهذا يعني أنه يجب البحث عن النقيض الأقوى للعطش؛ ألا وهو الماء الكثير (= البحر) ! نلاحظ أن استخدام لفظة "البحر"، وإن كانت تؤدي دلالة أولية خطابية إلا أنها تؤدي دلالة أخرى تقع ضمن البنية العميقة للنص. في الوقت الذي يظهر لنا "البحر" (في هذا المقطع) فضاءً يمكن عبوره إلى الضفة الأفضل (= السراء)، بالنسبة للناصِّ، يمكن القول بأنه يؤدي وظيفة دلالية موازية تقع في المستوى الأعمق للنص، وذلك من حيث أن كلمة "البحر" ليست فضاءً يمكن عبوره إلى الضفة الأفضل (= السراء) فحسب، بل هو إطار يحمل ماءً كثيراً (= إطفاء العطش) يفوق الماء القليل (= المطر) الذي قلَّ ما تمطره السماء على حد تعبير الشاعر. وبما أن كلا العنصرين (المطر والبحر) يعتبران نقيضين للـ(عطش)، من حيث دلالتهما على الـ (ماء)، فمن الطبيعي أن يختار الناصّ العنصر الذي يكفي لإرواء العطش؛ ألا وهو البحر (= الماء الكثير) ! إن العلاقة التي تجمع بين المستوى الخطابي العادي والمستوى العميق لكلمة "البحر" هي علاقة الثراء (السراء) المباشر (= العبور) والثراء غير المباشر (= الشرب)، أو يمكن أن نقلب المعادلة فنقول: إن العلاقة التي تجمع بين المستوى الخطابي والمستوى المنطقي لكلمة "البحر" هي علاقة الارتواء المباشر (البعد المائي) بالارتواء غير المباشر ( فضاء للهجرة ). إن ركوب + البحر (= الماء) يدل على التوجه نحو إطفاء غير مباشر للعطش، أما شرب – البحر (= الماء) فهو يدل على إطفاء مباشر للعطش. لنرمز لإطفاء العطش بحرفي (ط.ع) اختصارا فنقول بأن اللامباشرة ط.ع = اللاقابلية البحر ( + الماء) للشرب ! سأفترض بأن المعادلة ما تزال عسيرة على الفهم بعض الشيء، وبناءً على ذلك أقول، مضيفا مزيدا من الشرح: لقد خلصنا إلى أن كلا العنصرين (البحر والمطر) يحملان مادة (الماء)، التي تعتبر نقيضا للعطش، وأن الشاعر قد استخدم كلمة "العطش" في إطار حديثه عن الماء القابل للشرب (ماء المطر)، فهذا الماء يمكن القول بأنه يعبر عن إطفاء مباشر للعطش (لاحظ أنني أتحدث هنا عن العطش الحقيقي وليس المجازي)، فعندما انتقل الشاعر من الحديث عن المطر(= الماء الصالح للشرب) إلى الحديث عن البحر (= الماء غير الصالح للشرب) فإن انتقاله يساوي عملية التحول (المرجعي) لماء البحر من اللاقابلية للشرب إلى القابلية للشرب ! لننظر الشكل التالي:
هذا يعني أن اللامشروبية [12] البحر (= الماء) تساوي اللامباشرية التخلص من مرحلة "الضراء" (= الفقر) المتمثلة في استخدام الناصّ لعبارة "إطفاء العطش" التي هي تعبير مجازي عن (التخلص من الفقر) ! يبدو أنه لا شيء يرد في النص عبثا حتى وإن كان صاحبه يريد العبث. إن الحديث عن النفوذ إلى البنية الدلالية العميقة للنص الأدبي، من خلال القراءة السيميائية، يعني الكشف عن الكيفية التي تقوم بها عناصر النص بمحاكاة منطق الطبيعة (خارج النص)، من خلال وضعية تواجدها (داخل النص). فمهما تلاعب الكاتب بالكلمات يبقى نصه خاضعا لنوع من البرمجة المنطقية التي تمثل نسبة الكلام إلى شخص باعتباره فردا عاقلا. فكأن البنية اللاشعورية للناصِّ، والتي من المفروض أنها تقوم على لغة الطبيعة، تحاكي (في هذا الصدد) اللامشروبية ماء البحر (رغم مائيته) من خلال إعطائه وضعية الترميز إلى اللامباشرية إطفاء العطش الذي استخدمه الناصُّ، في الشطر الثاني من مقطعه السابق، للتعبير عن التخلص من الفقر (= العبور إلى الضفة الأخرى). وبذلك نجد هناك علاقة عمودية بين المهاجر والعطشان، تترتب عليها علاقة بين فعلي "ركب" و "شرب"، وعلاقة بين البحر والمطر الخ، والتي يمكن إيجازها كالتالي:
المهاجـر+ يركب+ البـحر لكي ينـهي الفـقر (= سراء مبـاشر)
¯ ¯ ¯ ¯ ¯
العطشان+ يشرب+ المـطر لكي يطـفئ العطش (= سراء غير مباشر)
أو كالتالي:
مادام المستوى السطحي للنص يحمل هذه البنية، فما الذي حدث في البنية العميقة، والذي تجلى على سطح النص بهذا الشكل؟ في الواقع هناك معادلة منطقية تضمن للنص تمثله الدلالي للواقع المرجعي قوامه التالي:
بما أن ماء "البحر" غير قابل للشرب، بسبب ملوحته المرجعية المستبطنة في لاشعور الناصِّ، فهذا يعني أن على (البحر) أن يخضع لنوع من التصفية (الفيزيائية) لكي يصبح صالحا للشرب، وهذه البديهية أيضا مستبطنة في البنية اللاشعورية للنص. إن غياب هذه التصفية (الفيزيائية) افتراضا قد عبر عنها الناص بأن جعل كلمة "البحر"، في مقابل كلمة "المطر"، لا تعبر عن إطفاء العطش الحقيقي، بل تعبر عن إطفاء العطش المجازي. بما أن حضور المجازي يعني غياب الحقيقي، فإن حضور العطش، في ثوبه المجازي، (من خلال حديث الشاعر عن ركوب البحر في إطار جمعه بإطفاء العطش) يساوي ملوحة البحر التي تجعله غير قابل للشرب (وإنما هو قابل للعبور) وإن كان في الأصل ماءً. لنتأمل هذا الشكل الذي يعكس العلاقة المستبطة في النص بين هذا الأخير والواقع:
![]() |
هذا يعني أن:
اللاحقيقية العطش تساوي اللاعذوبة ماء البحر.
أو:
إن مجازية العطش تساوي ملوحـة ماء البحر.
ونلقي نظرة كذلك على الشكل التالي:
هذا يعني أن:
اللامجازية "العطش" تساوي اللاملوحة ماء المطر.
أو:
إن حقيقـية "العطش" تساوي عـذوبة ماء المطر.
ننتقل إلى دلالة "السماء" التي تقابل دلالة "الأرض"، فبالموازاة مع التقابل والتضاد القائمين بين الدوال التي تحدثنا عنها، نلاحظ بأن هناك تضادا آخر قائما بين الأرض والسماء، وباختصار يمكن القول بأن السماء تشير إلى حقل (السراء)، بينما تشير الأرض، في المقابل، إلى حقل (الضراء). ولكن من الجدير الإشارة إلى أن التدقيق في إيراد المعجم الدال على "السماء" كثيرا ما لا يدل على هذه الأخيرة لذاتها، في عمق النص، كدلالة مباشرة على "السراء" الذي يقابل "الضراء" ، أي أننا لن نتسرع في القول بأن الأمر يتعلق بالتضاد القائم بين "الأعلى" و"الأسفل"، فنتوه ونشرد بعيدا عن طبيعة النص الخ، بل نقول بأن "السماء"، في هذا الديوان، تشير إلى حقل "السراء" لعلاقتها بالمطر (= ماء)، فالسماء إذن تدل على "السراء" من حيث هي مصدر للمطر (= ماء). وإذا كانت تقع ضد "الأرض"، فمن حيث تدل هذه الأخيرة أيضا على اليابسة (= عطش)، لا أكثر ولا أقل. بالعودة إلى الصفحة التاسعة، من هذا الديوان، نجد مثالا ملموسا على ذلك، وهو قول الشاعر:
"الطفل الذي ينفض غبار الدروب
المكتظة بزحام المتاهات
في ليالي الحرمان المشتعلة
وتحت كابوس المدينة العتيقة
ينتظر بين أسوار الجدار
طالما اشتاقت عيناه لدمعة
تشق غمام الضباب
وتعكر ملح القهر"[13].
صحيح أن "السماء" لم ترد في هذا المقطع معجميا وصراحة، لكنها وردت دلاليا وضمنيا، فكل ما في الأمر هو أن الشاعر قد استخدم تقنية "الإحلال والاستبدال" (انظر الفصل الرابع من هذه الدراسة) للإشارة إلى السماء من خلال قوله "طالما اشتاقت عيناه لدمعة تشق غمام الضباب وتعكر ملح القهر". إن هذه الدمعة، تدل على قطرة مطر (= ماء)، فعندما تنزل من السماء تشق الضباب (تكشف الغمة) وتعكر ملح القهر. لو قلنا بأنها ما هي إلا دمعة، بالمعنى المباشر والبسيط للكلمة، ما استطعنا أن نجد هناك داعيا للاشتياق الذي ذكره الشاعر، إذ كيف يمكن لطفل أن يشتاق لدمعته؟ فهذا يعني أنه يبحث عما يبكيه. هذا في حين نجد أن كلا من "الغمام" والضباب" يدلان على أن المشهد يتعلق بالسماء، وبهذا يكون "الغبار" رمزا لليابسة، في السطر الأول من المقطع الأخير، ليقف ضدا على السماء المشار إليها في كل من السطر السادس والسابع والثامن. بهذا يكون "الغبار" (= يابسة) رمزا للفقر (الضراء) في مقابل "الدمعة" (= ماء) التي تدل على المطر. وبهذا أيضا تصبح السماء مهيأة لتشكل مقابلا للأرض، فإذا كانت هذه الأخيرة لا تحتوي على شيء سوى " غبار الدروب المكتظة بزحام المتاهات"، فإن الأولى (السماء) تحتوي على ما يستدعي أمل واشتياق الطفل إلى دمعة (قطرة) منها.
هنا يتبين لنا وجه الاختلاف القائم بين ما يدل على الأرض وما يدل على السماء، وهو الاختلاف الذي يمكننا إدراجه، بكل سهولة، فيما خلصنا إليه أعلاه من التكامل الدلالي القائم بين "البحر" و"المطر" اللذين يعتبران ضدين لليابسة. إن السماء، كما رأينا، وردت الإشارة إليها باعتبارها مانحة المطر للعباد، فالطفل ينتظر منها أن تبكي (= تمطر). الطفل الذي ينفض غبار الدروب (آلام مرتبطة بعناصر الأرض)، طالما اشتاقت عيناه لدمعة تشق غمام الضباب (آمال مرتبطة بعناصر السماء)، اشتاقت عيناه لـ(رؤية) دمعة (مطر) السماء، وهي تسقط لتشق عليه الضباب. عندما ذكر العينين أردف ذكر الدمعة، لأنها أكثر السوائل قربا ومناسبة للحديث عن العين.
إذا خلصنا إلى أن المقصود بالدمعة هو المطر، فمن المعلوم أن ذرف الدموع لا يحدث إلا نتيجة للبكاء، وهذا الأخير يحدث بدافع الألم أو الرحمة. إذا تساقط المطر، فهذا يعني أن السماء الباكية قد رحمت العباد (الطفل). وما دام هذا المطر لا يأتي إلا نتيجة لتلك الرحمة، فهذا يعني أنه يماثل عملية البكاء لدى الإنسان، فهذا الأخير إذا أحس بالرحمة الشديدة على أحد بكى لما حل به من سوء. وكذلك السماء في هذا النص، لكن بكاء السماء هنا يتمثل في الإمطار، وهذا الأخير (= دمعة) هو الذي يشكل همزة وصل بين العين الحقيقية والعين المجازية في النص ! فعين الطفل حقيقية ومُظهرة، أما عين السماء فهي مجازية ومُضمرة. قبل أن نواصل التحليل، نأخذ مثالا آخر مما ورد في الصفحة التاسعة عشرة، حيث يقول الشاعر:
"ماذا لو بنيت
غيمة صفراء
فوق سحاب أحمر
فهل تفقد السماء زرقتها؟"[14].
كأن الهدف هو الوصول إلى تعكير زرقة السماء بأي ثمن، مع العلم أن تعكير زرقة السماء يدل على غيمة، كما رأينا وكما سنرى فيما بعد من خلال مثال أخر. إن هذا الهدف الذي نستشف، من خلال ما ورد في المقطع أعلاه، رغبة في تحقيقه، هو إمطار السماء. وبما أن الدور المرجعي الذي يلعبه المطر، من خلال مائيته بشكل مباشر كالحرث والزرع الخ، يكاد ينعدم، وأن حتى استعمال كلمة "عطش"، أو ما يشير إليها، لا يكفي لنفترض حكاية لعب فيها العطش دورا مأساويا يكفي للكتابة عنه كعطش وليس كشيء آخر، فهذا يقوي الإدراك بأن هذا العطش بدوره يدل على الفقر (الضراء)، في حين يدل الارتواء على الثراء (السراء)، لأن نسبة التدليل، على هذين المعطيين، قوية جدا في هذه النصوص.
إن السؤال الوارد في المقطع الأخير أعلاه "ماذا لو بنيت غيمة.." هو سؤال التمني، مفاده: "أتمنى أن أرى سحابة تتخلل السماء فوقي"، وما ذلك إلا دليل على اقتراب سقوط المطر، أي أن الناصّ، بوضوح، يتمنى أن يسقط المطر. لعل هذه النقطة ستتبلور أكثر من خلال أخذنا مثال آخر وهو ما ورد في الصفحتين؛ السادسة والعشرين والسابعة والعشرين من الديوان حيث يقول الشاعر:
"لم يكن الزمن دوما
لينزف ملح بحورنا
ولا زرقة سمائنا
ما نحن إلا فقراء الأرض
سيشهد لنا التاريخ
أننا دخلنا وخرجنا
من باب واحد"[15].
لو نزف الزمان ملح هذه البحور لأصبحت عذبة، وكذلك لو نزف زرقة "السماء" لحصل هناك مطر. إذا كان الحديث عن "البحر" قد أصبح مفهوما، على أنه يرمز للثراء (السراء) في مقابل اليابسة التي ترمز للفقر (الضراء)، فإن ذكر "السماء" هنا، كما نرى، ما هو إلا حديث عن الماء أيضا. وبهذا يكون المقابل الوحيد لذلك هو الأرض التي هم فقراؤها كما قال الشاعر، هكذا بأقصى البساطة. في هذا المقطع نجد تضادا واضحا بين الأرض و"البحر"، وهو التضاد الذي يخترق دلاليا "السماء" ليشير، من خلالها، إلى ما يمكن أن يتساقط من "المطر" في حالة تعكير زرقتها. عندما تكون "السماء" على وشك الإمطار يتغير لونها الأزرق، ويتعكر بسبب السحب الكثيفة، فهذا هو بيت القصيد، وانطلاقا من هنا، نجد بأن هناك علاقة دلالية قوية بين ورود "السماء"، في المقطع الأخير، أي في الصفحتين السادسة والعشرين والسابعة والعشرين، على سبيل الحقيقة والإظهار، وبين ورودها، على سبيل المجاز والإضمار، في المقاطع السابقة. وفي كل الأحوال نخلص إلى أن "السماء"، في هذه النصوص، لا تدل على ذاتها، بل تأتي لتدل على ما تعطيه من "المطر".
عندما نسلط الضوء على المفردات التي تشكل المفاتيح في النص، من هذا النوع، ندرك بأن النص الأدبي يقوم على توسيع مجموع الكلمات، من خلال نفخ الموضوع الذي تعالجه، بحيث يأخذ شكل "البالون"، أو بالأحرى يأخذ شكل الشجرة، كما يشير بعض النقاد ومنهم الدكتور عبد الله الغذامي، ونضيف إلى ذلك أن لكل كلمة لها ما لورقة الشجرة من علاقة بأخرى، من جهة، كما أن لكل كلمة ما للورقة من علاقة بالغصن الفرعي الذي يربطها بالغصن الأصلي، وهكذا يكون الهيكل الدلالي للنص بمثابة هيكل الشجرة. إذا كان النص الأدبي يحتاج للكاتب الذي يقوم بتوسيعه وتكثيف شبكته الدلالية، فهو يحتاج للقارئ الناقد لكي يجري له عملية عكسية، وهي تقليصه وتلخيصه وتلطيف شبكته الدلالية، بحيث تكون ظاهرة للعيان بشكل أفضل. فعلى سبيل المثال، وجدنا في النص هذه المفردات المفاتيح:
"بحر/ مطر/ سماء/ أرض/ماء/ ضفة/ غبار...الخ" هذا مبدأ التوسيع الكتابي مع التكثيف الدلالي، وهو ما يمكن تقليصه وتلطيف شبكته الدلالية في مدلولين أوليين كالتالي:"عطش/ ارتواء". وإذا أردنا أن نلطف أكثر هذه الشبكة الدلالية، أو نقربها إلى عين القارئ أكثر، يمكن أن نخلص إلى مدلولين، لا أكثر ولا أقل، وهذان المدلولان هما "الفقر/الثراء" أو "السراء/الضراء"
***
ممنوع النسخ وإعادة نشر النص إلا بعد موافقة المؤلّف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق