نُشر هذا المقال في العدد الأخير من مجلة "الرقيم" العراقية.
على لسان سارده الوسيط بين الراوي والمتلقّي (كما سنبيّن لاحقاً) يقول
الطيب صالح: "الإنسان لمجرّد أنه خُلق عند خط الاستواء، بعضُ المجانين
يعتبرونه عبداً، وبعضهم يعتبرونه إلهاً. أين الاعتدال؟. أين الاستواء؟"(ص 111).
من هنا، من وسط الرواية، تبدأ مقاربتنا لتجليات فلسفة استوائية مدهشة. وإنّ
هذا الاستواء الذي يتحكّم في مسار الرواية، ويدفع بأقدارها السردية نحو نهاية وُسطى كما سنرى، لا يفتأ يسحب الأحداث
والشخوص والعلاقات باتجاه المركز، كما أنه قد يظهر على صورة وساطة، اعتدال،
أو جسر.
1.
الوساطة:
يصطفى الساردُ من بين شخوصه راوياً اسمه مصطفى سعيد، حيث أنّ السارد
(الشخصية المحورية) سيعود من غيبته التي دامت سبع سنين في انجلترا، لكنه لن يحكي لنا
عن تجربته، بل سيستمع إلى مجموعة من التجارب، أهمها تجربة مصطفى سعيد الغامضة،
علماً بأن مصطفى هذا كان قد هاجر إلى انجلترا قبل السارد. وقد نلاحظ بدايةً أنّ الغموض
في حدّ ذاته ليس إلا وسيطاً بين الظهور والاختفاء. ثمّ إنّ الساردَ، وهو
يستمع ويستمتع بحكاية راويه الـ مُصطفى، إنما قرّر أن يكون وسيطاً بين الراوي
والمتلقّي. ومن جهته، فإنّ مصطفى وسيطٌ بين الجنوب المألوف، متمثّلاً في السودان،
والشمال متمثلاً في انجلترا. لكن في مستوى غير المألوف، قد يكون مصطفى وسيطاً بين
عصر قديم، متمثّلاً في العصر العباسي (بغداد)، وعصر حديث متمثلاً في انجلترا (أوكسفورد).
ذلك أنّه في وهم من أوهام مصطفى (الغامض)، سيلتقي في أوكسفورد بفتاة اسمها سوسن، يسألها:
"هل تذكرين؟". فتجيبه "كيف أنسى دارنا في الكرخ في بغداد على ضفة
نهر دجلة أيام المأمون؟. أنا أيضاً تقفيت أثرك عبر القرون، ولكنني كنت واثقة أننا
سنلتقي".(ص 144-145). هنا يتقدّم مصطفى على أنه عابر للأمصار والأعصار.
والسر يكمن خلف "باب الحديد" المفضي إلى مكتبته العجيبة، التي ستكون
وسيطاً معطّلاً بين عالم الكتابة وعالم الزراعة. لكن بسبب إصرار مصطفى على كتمان حقيقته،
أترس باب الحديد على مكتبته، وتظاهر بين الفلّاحين بأنّه مجرّد فلاح مثلهم. كتم
حتى كونه يتقن الإنجليزية، إلى درجة أنه سخر من السارد عندما أخبره الأخير بأنه
حاصل على دكتوراه في إنجلترا عن بحثه في أعمال أحد الشعراء الإنجليز. يسخر منه
مصطفى ويقول بأننا هنا لا نحتاج إلى كل هذه الثقافة، وإنما نحتاج فقط لما ينفعنا
في الزراعة.
إذن، لم يستطع مصطفى أن ينقل ما أوتيه من الأنوار الغربية إلى بلاد النيل.
فشلت وساطته، فكان مصيره نهاية غامضة؛ إذ أنّ بعض أبناء القرية اعتقدوا أنه انتحر،
والبعض الآخر اعتقدوا أنّه غرق في النيل. ولكن قبل أن يتوفّى مصطفى، سيوصي الساردَ
بأبنائه وزوجته، وسيتركهم أمانة في ذمته. وأيضاً سيكون قد أطلعه على جزء من سيرته،
بما فيها دراسته في إنجلترا. عندما يعلم أهل القرية بأنّ من وما تركه مصطفى أصبحوا
في ذمّة السارد، يقرّر ود الريس أن يجعل السارد وسيطاً بينه وبين أرملة مصطفى،
أملاً في أن تقبله زوجاً. مع العلم أنّ ود الريس تجاوز السبعين من عمره، لكنّه
تجاوز الحدود حتى في الفحولة، إذ يبدو أنّ كلّ شيء كبُر فيه إلا العقل.
أصبح السارد في وضعية محرجة؛ فالأرملة حسنة تعجبه، وهو أيضاً يعجبها، لكن
بصمت، فترك أمرها لوالدها محمود، وهذا يعني أنّ وساطته قد أخفقت، فكانت النتيجة
أنّ محموداً أجبر ابنته حسنة على الزواج من ود الريس، وقتل كلّ منهما الآخر في
ليلة عرسهما، فكأنّي بالوساطة كلما أخفقت، حدثت المأساة.
2.
الاعتدال:
على إثر غيبته الدراسية في إنجلترا، يقول السارد: "تعلمت الكثير وغاب
عني الكثير". (ص5). هنا يقدّم نفسه على أنّه معتدل، وسط بين العلم والجهل. إذ
حتى لو جاء بثقافة هؤلاء كلها إلى بلاد النيل، من قال أنّ الإنجليز هم النموذج
الحضاري الصحيح الذي يجب أن يُقتدى؟. إنه في النهاية يراهم كالسودانيين "يحلمون
أحلاماً بعضها يصدق وبعضها يخيب"(ص7). أي أنّهم خاضعون لاعتدال الطبيعة،
وليسوا محظوظين في كل شيء.
حين يعود السارد إلى قريته، لا يجد الجميع سعداء ولا تعساء، فيقول:
"جبت الأرض طولاً وعرضاً، معزياً ومهنئاً"(ص 8). يعزّي من فقدوا شخصاً،
ويهنئ من تزوّج. وهو يتأمّل النيل، يقول: "رأيت الضفة تتقهقر عاماً بعد عام
أمام لطمات الماء، وفي جانب آخر يتقهقر الماء أمامها".(ص8). وتأتي هذه
الملاحظة اعتدالاً بين التقدّم والتقهقر، فيقول "كنت أفكر، وأنا أرى الشاطئ
يضيق في مكان، ويتسع في مكان".(ص8-9 ). هكذا يصوغ فلسفته الاستوائية، فكأنّي
به يفكر على طريقة النيل الذي يضخّ الحياة من قلب أفريقيا نحو رأسها شمالاً. فلا
يتغلّب عليه سوء التقدير ولا حسنه. إنّ الموضوعية تقتضي الاعتراف بأنّ المستعمرين
أنفسهم لم يأتونا بالخراب فقط، "لكنّ مجيئهم، هم أيضا، لم يكن مأساة كما
نتصور نحن، ولا نعمة كما يتصورون هم"(ص63). فماذا كان إذن؟. يجيبنا السارد:
"كان عملاً ميلودرامياً". ففي هذا المقام، يُظهر اعتدالاً بين الفهم
الذاتي المنكفئ على نفسه، والفهم الموضوعي المنفتح على الأفاق الرحبة بتفاصيلها،
إذ لا يجب أن نظلّ داخل أنفسنا، بحيث يتجاوزنا التاريخ، ولا يجب أن نتمادى فيما
حولنا، بحيث نخسر أنفسنا.
لهذا، "سنتحدث لغتهم، دون إحساس بالجميل، ولا إحساس بالذنب"(ص53).
فالإيغال في الإحساس بالجميل، قد يقتلعنا من أنفسنا. لكن الإيغال في الإحساس
بالذنب، قد يمنعنا من الامتداد. إننا في هذه الحالة كالشجرة التي تتوقّف عن النموّ،
فلا هي مُقتلَعة من جذورها فتخلي المكان لغرس غيرها، ولا هي تمدّ أغصانها في
السماء كما تمتدّ جذورها في الأرض.
3.
الجسر:
حتى جدّه الحاج أحمد، مازال جسراً بين الطفولة والشيخوخة، أي أنّ البداية مشرفة
عليه بقدر ما هو مشرف على النهاية، فـ
"حين أعانقه أستنشق رائحته الفريدة التي هي خليط من رائحة الضريح الكبير في
المقبرة ورائحة الطفل الرضيع"(ص77 ). ولكن ما سرّ هذا الصمود ذو رائحة
الخلود؟. إننا في عالم فانٍ، لا يبدو أنّ وجودنا فيه على اتصال مباشر بالخلود،
فلابدّ، والحالة هذه، من أن يكون ثمة جسرٌ بين هذا الوجود والخلود المنشود.
لكن يبدو أنّ هذا الجسر لا يجب أن نعبره بكلّ ما أوتينا من قوّة وسرعة، فما
يدرينا أنّ هذا كله سينفد قبل أن نصل. ولعلّ الاعتدال في إبداء القوّة والتسرّع هو
السرّ الكامن وراء صمود الجدّ، إذ يقول عنه السارد: "ولكنه كشجيرات السيال في
صحاري السودان، سميكة اللحى حادة الأشواك، تقهر الموت لأنها لا تسرف في
الحياة"(ص77). إنه سرّ الاستواء، فهاهو يجذب الرواية نحو نهاية استوائية، حيث
يحاول السارد أن يعبر النيل سباحةً، لكن لن يسعه إلا أن يظلّ جسراً بين عالمين، إذ
يقول وهو في وسط النهر: "تلفّتُ يمنة ويسرة، فإذا أنا في وسط الطريق بين
الشمال والجنوب. لن أستطيع المضي، ولن أستطيع العودة"(ص169). بهذا، وهنا، تنتهي
الهجرة إلى الشمال.
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق