الأربعاء، 11 نوفمبر 2020

السرد العربي من الإخبار إلى الإنشاء

 

   سعيد بودبوز

 

هذه الدراسة نشرتها مجلة الرافد الإماراتية سنة 2018




توطئـة:

 

نتناول في هذه الورقة محوراً من محاور توظيف صيغة المضارع في الرو اية العربية الحديثة، مفترضين بأنّ الأمر في العمق يتعلّق بتطوّر السرد الأدبي من مرحلة الإخبار إلى مرحلة الإنشاء كما سنبيّن بما أمكن من التفصيل. وترتكز منهجيتنا في مقاربة هذه الظاهرة السردية على أساس أن النص يؤدّي وظيفة، في إطار الجنس السردي، تشبه الوظيفة التي تؤديها الجملة، فعلى سبيل التبسيط؛ كما يتألّف النص من عدة جمل، كذلك يتألّف السرد كجنس عموماً من مجموعة نصوص. وهذه النصوص، أو بعضها، قد يمكنه أن يهيمن ويشكّل السيمة الرئيسية التي تميّز الجنس السردي في عصر عن غيره من العصور، تماماً كما أن هيمنة مجموعة معيّنة من الجمل على النص يمكن أن تشكّل عموده الفقري، وفكرته الأساسية، أو النواة التي يتمحور حولها النص. إذن، هناك سيرورتان للنصّ الأدبي عموماً والسردي على وجه الخصوص، السيرورة الأولى داخلية تتعلّق بإنجاز النصّ (الخاصّ) من بدايته إلى نهايته. أما السيرورة الثانية، فهي خارجية أو بينية تتعلّق بمساهمة النص الخاصّ في نمو النص العامّ الذي هو الجنس السردي بالذات. فمن هذا المنطلق، سنسعى لمقاربة صيغة المضارع الملحوظة في بعض الأعمال الروائية الحديثة.

1. مَشْهَـدَة المسـرود:

أوّل ما يتوخّاه الكاتب من اعتماد صيغة المضارع في الرواية الحديثة، هو مَشْهَدة المسرود، وكمثال حيّ على ذلك، سنأخذ مقطعاً من رواية "الخبز الحافي" للروائي المغربي محمد شكري، حيث يقول السارد: "أخي يبكي، يتلوى ألماً، يبكي الخبز. يصغرني. أبكي معه. أراه يمشي إليه. الوحش يمشي إليه. الجنون في عينيه. يداه أخطبوط. لا أحد يقدر أن يمنعه. أستغيث في خيالي. وحش ! مجنون ! أمنعوه ! يلوي اللعين عنقه بعنف. أخي يتلوى. الدم يتدفق من فمه. أهرب خارج بيتنا تاركا إياه يسكت أمي باللكم والرفس. اختفيت منتظرا نهاية المعركة. لا أحد يمرّ. أصوات ذلك الليل بعيدة وقريبة مني. السماء. مصابيح الله شاهدة على جريمة أبي. الناس نائمون. مصباح الله يظهر ويختفي. شبح أمي. صوتها خفيض. تبحث عني. تنتحب. الظلام يخيفني."(1).

هناك ارتباط حميميّ متين بين محمد شكري وروايته، فكأنّه يكتبها بدمه، وكأنّ الأوراق التي يخطّ عليها آلامه إنما حُزّت من لحمه. يبدو في تأرجح روايته بين استعمال صيغة الماضي وصيغة المضارع، وكأنه في قلب معركة أسطورية يُميتُ فيها ويُحيي، فهو يستعمل صيغة الماضي أحياناً كأداة لقتل الحدث الذي لا يستحقّ الذكر، ولكنه يستعمل صيغة المضارع لكي يحيي ويُمشهد بها الشخوص والأحداث المسرود عنها، غير أنّ الهدف ليس هو المشهدة في حد ذاتها، بل من أجل ما تستنهضه في نفس السارد والمسرود له من مرارَة الظلم الذي لا يجوز أن يطويه الماضي دون عقاب للظالم وإنصاف للمظلوم.

ففي ذكره السماء وعالمها ما يتضمّن إشارة إلى القضية التي يكون فيها القدرُ قاضياً لا يُرجى منها عدلٌ ولا إنصاف. وبالتالي، فإذا كان الليل أخفى للويل كما يُقال، فإن ظلام الماضي أخفى لظلم القاضي.  لهذا كان لابد من مشهدة الأحداث من خلال صيغة المضارع، كما كان الصباحُ لضحية المساء أسلم له من مصابيح السماء. فالأوّل كان سيفضح جريمة الأب، حيث يستيقظ الناس(المتلقي/القاضي الآدمي) الذين كانوا سيمنعون الأب المجرم من ارتكاب الجريمة، أو كانوا سيسوقونه إلى العدالة. أما الثاني، أي مصابيح السماء، فقد ظلّت تحدّق في الضحية والجلاد ببرودة أعصاب الليل.

2. رمزيـة التنقيـط:

لاحظ وتأمّل كيف تجوس النقاط والفواصل خلال الكلمات الواردة في المقطع السابق. إن الفاصلة تمثّل إيقاع الصوت، والنقطة تمثّل إيقاع الصمت. معروف أن الفاصلة تفصل عادةً بين شيئين من طينة واحدة، ففي قول السارد مثلاً: "أخي يبكي، يتلوى ألماً، يبكي الخبز"، نجد أن الجمل الثلاث كلُّها تعكس لقطاتٍ متلاحمةً في الواقع، أي أن الأخ يبكي الخبز ويتلوى في نفس الوقت. ولكن، في المقابل، نلاحظ أن هذه الجمل: "يبكي الخبز. يصغرني. أبكي معه."، تعكس وقائع متباعدة؛ فلا علاقة مباشرة بين بكاء الطفل، وكونه يصغر السارد. ولا علاقة مباشرة أيضاً بين كونه يصغر السارد، وكون هذا الأخير يبكي معه، خاصة مع ورود كلمة "يصغرني" بين الجملتين الأخريين، فلو قال مثلاً: "يبكي الخبز. أبكي معه"، لكانت العلاقة مباشرة، ولكنّ السارد-سواء من حيث يشعر أو لا يشعر- إنما يريد أن يصوّر لنا حالة من القهر تتدخّل فيها سلطة الصمت بين لحظة وأخرى لتخنق الصوت، وتقطّع أوصال الكلام.

إن السارد يبدو غارقاً في ذكريات المآسي. أضناه الفرار منها إليها. أرهقه الاستنجاد من الرمضاء بالنار، فأصبحت جُمَلُه متقاربة ومرتعشة من كثرة التنفُّس. لو يتخيّل القارئ مراسلاً تليفزيونياً يقرّب الميكروفون إلى فم أحد لاعبي كرة القدم، فيلاحظ أنّ صوته المتقطّع من كثرة التنفّس يشبه- إلى حد مدهش- ما كتبه محمد شكري خلال المقطع السابق وغيره من المقاطع المماثلة التي تتضمنها روايته. ولهذا أعتبره قد توفّق إلى حد بعيد في هذه الرواية، ذلك لأن تقطّع كلام لاعب الكرة يدلّ على أنه في قلب المباراة، وأنّ أحداث هذه الأخيرة لا تزال ساخنة، وهذا بالضبط ما نجده عند محمد شكري، حيث تتضافر صيغة المضارع- التي تمشهد الأحداث الماضية وتحيّنها- مع روعة التصوير للحالة النفسية الساخنة التي تعبّر عن تفاعل السارد (الضحية) مع تلك الأحداث، فكأنه يحدّثنا من قلب الجريمة التي ارتكبها الأب في حق الابن.

يبدو السارد متعباً، لأنه ببساطة يركض، فالموضوع (المسافة) طويل جداً، ولكن الوقت المتاح له لإخبارنا به قصير جداً. أحياناً يكاد ينجح في إخبارنا ببعض تفاصيل الجريمة من خلال تسلسل منطقي للكلمات، وبالترتيب التقليدي المتعارف عليه. ولكن فجأةً تتدخّل سلطة الصمت المانعة من الصوت. وهكذا تصبح الفاصلة علامة للصوت، وتصبح النقطة علامة للصمت. الفاصلة تكاد تبشّرنا بأنّ السارد سيقصّ علينا الحكاية بهدوء، وبترتيب منطقي للكلمات، ولكن ما يلبث أن تنزل على رأسه النقاط فجأةً كالحجارة فتشجّ صوته، وتحوّل سلاسة كلامه إلى تلعثمات.

3. رمزيـة التلعثـم:

بيد أن تمثيل السارد بلاعب كرة القدم، يصحّ فقط لإعطاء الصورة العامة للقارئ حول الموضوع، وذلك لأنّ لاعب الكرة قد يأتي كلامه متقطّعاً، ولكن دون أن يبدو متلعثماً ومرتبكاً، أي دون أن يشعر بشيء يدفعه للقفز من كلمة إلى أخرى، وهذا هو الفرق بين التعب والتوتر. أما السارد، فإنّ تعبه يبدو ممزوجاً بالتوتر الناتج عن ذكريات الرعب والبؤس. إن الطريقة التي يعرض بها الجمل السردية في هذا المقطع وغيره، تعكس بتلعثماتها في العمق شهقات طفل وهو ينتحب ويبكي !. النص يعكس، بدقة مدهشة، موقف الطفل الذي يتخطّف ذهنَه الرعبُ والارتباكُ فيجعله يقفز فوق حواجز الكلمات عساه يمرّر الصوت من حنجرته ويقول ما يجري. إن الكلمات التي تخرج من فم الطفل أثناء بكائه، تخرج متقطّعةً وغير ذات ترابط متين فيما بينها.

لاحظ قوله "يبكي الخبز. يصغرني"، فلا علاقة سردية عضوية بين الجملة الأولى والجملة الثانية. إن السارد إذن يصوّر حالة طفولية مكبّلة بالقهر والعذاب، وهي حالة تعكس صراعاً مريراً بين الصوت والصمت. فالصمت يرفضه الطفل البريء، ولكن يفرضه الأب المجرم، وبهذا يبدو الأب وكأنه يدفع صوت الطفل نحو داخل جوفه، بينما يدفع الطفل هذا الصوت نحو الخارج، فتنشأ قوة الضغط التي تؤدي إلى تقطّع الكلمات والوقوع في التلعثم. إذن، فإنّ وضعية الكلمات على الورق بين النقاط المتقاربة والمعاني المتباعدة، إنما تعكس حالة امتزج فيها تعب الابن وانتحابه !.

4. السـرد الإنشائـي:

إذا كانت الأحداث المسرودة تقضّ مضجع الذاكرة إلى هذه الدرجة، فإنّ الهدف من وراء لجوء السارد إلى صيغة المضارع التي تمشهدها أمام أنظار المتلقي، هو إنشاء محكمة مزدوجة على النحو التالي:

أ.محكمـة نفسيـة: وهذا المطلب يتحقّق على المستوى الداخلي للنص، حيث يكفّ السارد عن السرد الإخباري، ويعتمد السرد الإنشائي لكي "يـفعـل" شيئاً ما (يُحاكم)، ويريد أن يُحرّض المتلقي على المشاركة في هذا الفعل (المحاكمة)، وغني عن البيان أن المتهم في هذه القضية هو الأب. ففي هذه المحاكمة يحقق الساردُ نوعاً من إشباع الرغبة في فضح الأب المجرم أمام الناس (المتلقي) مؤكّداً، من خلال صيغة المضارع، بأنّ هذه الأحداث الإجرامية لا تسقط بالتقادم الذي يتم تكريسه عادةً من خلال الرواية التقليدية التي تُسرد فيها الأحداث بصيغة الماضي، فكأنّه يقول لنا:

"انظروا أيها السادة والسيدات، ها هو أبي الوحش يمشي إلى أخي المريض لكي يقتله. انظروا إلى مشيته المرعبة، أنظروا وابحثوا فيه عما يجعل الإنسان أباً، فأنا لم أجده. حاولوا أن تسمعوني وأنا أستغيث في خيالي، فإن سلطة الصمت بيد أبي تمنعني من الصوت. لم يكن حتى بوسع السماء أن تنقذ أخي من أبي الوحش. انظروا إلى مصابيح الله كيف تحدّق في الجريمة دون أن تحرّك السماءُ ساكناً، أين العدالة؟. ما الذي تنيره المصابيح بالضبط؟ هل تنير المشهد لكي تفضح الجريمة، أم تنير طريق الله أمام المجرم لكي يقطع طرق العباد؟".

ب.محكمـة سرديـة: وهذا المطلب كامن في أعماق النص، لكنه يخص السرد كجنس، فمن هذا المنظور، نرى أن الأب يرمز إلى الماضي، كما يرمز الابن إلى الحاضر، وبالتالي؛ فإنّ "استعمال" صيغة المضارع ذاته يرمز إلى إنصاف الابن بوصفه نسخة رمزية باطنية للحاضر. فكما أقدم الأب على قتل ابنه، كذلك تُقدم صيغة الماضي على قتل الأحداث السردية، فحين يُقال مثلاً: "بكى الطفل"، فهذا يعطينا انطباعاً بأنّ الفعل "بكى" قد مات وانتهى الأمر، أي لم يعد الطفل يبكي الآن، وهنا يبدو لي أن القارئ قد فهم وجه التماثُل الكامن في عمق القضية بين الأب والماضي، والذي يترتب عليه، في المقابل، فهمُ وجه التماثُل القائم بين الابن والحاضر. فمن هذا المنطلق، يصبح النص أداة من أدوات الانتقال بالرواية (كجنس أدبي) من مرحلة السرد الإخباري إلى مرحلة السرد الإنشائي، أي من مرحلة الإخبار بالحدث، إلى مرحلة إنشاء الحدث كما سنبيّن بعد قليل.

5. إنشـاء الحـدث السردي:

كيف يمكن إنشاء الحدث السردي من خلال صيغة المضارع؟. لعل النص المسرحي أو السيناريو خير مثال على ذلك؛ ففي النص المسرحي نجد استعمالاً وظيفياً لصيغة المضارع، أي أن الغرض هو توظيف تلك الصيغة في إنشاء مسرحية حية يشخّصها أشخاص آدميون من لحم ودم. من هنا يتبيّن لنا بأنّ اعتماد صيغة المضارع في الرواية، إنما يتضمّن تطلّعاً إلى الإنشاء بدل الاكتفاء بالإخبار، وقس على النص المسرحي في شأن السيناريو،  فمعلوم أن كاتب السيناريو يعتمد صيغة المضارع، لأنه يريد إنشاء فيلم. إن الرواية لا تتحوّل عادةً إلى عمل سينمائي أو تليفزيوني إلا بعد أن يُكتب لها سيناريو، لأنّ هذا الأخير أداة لإحياء الشخوص والأحداث التي قتلتها صيغة الماضي!.

فمن خلال صيغة المضارع، يتمكّن السيناريو من إحياء ومَشهَدة الشخوص والأحداث السردية، فإذا بها تتحرّك لتخرج من النص الروائي إلى ما بعده، علماً بأن الموتى لا يتحركون، وكذلك الشخوص والأحداث السردية المقتولة على يد الماضي؛ لا تستطيع أن تتحرّك إلى خارج وما بعد النص، إلا إذا تمّ إحياؤها بصيغة المضارع، ونقول بشيء من الرمزية: لهذا نجد الروائي (محمد شكري مثلاً) يصرّ على محاكمة الأب (الماضي) القاتل، كما يصرّ على إحياء الابن (الحاضر) المدفون في مقبرة الرواية التقليدية !.

 ***

 

 

الخلاصـة:

والخلاصة أنّ السرد الإخباري تضطمر فيه أحداث ميتة بالمعنى الذي فصلنا فيه أعلاه. أما السرد الإنشائي، فهو يحييها في الرواية رمزياً كما يحييها المسرح والسيناريو فعلياً على خشبة المسرح، أو من خلال فيلم، أو مسلسل. وإذا عدنا الآن إلى ثنائية النص والجنس، أمكننا تبسيط الفكرة بالقول أن الأب والابن-فضلاً عن الأدوار التي لعبها كل منهما في النص- عبارة عن نسختين نصّيتين للماضي والحاضر بالنسبة إلى الجنس السردي عامّة؛ فالأب يلعب دوره على مستوى النص، لكنه، في المقابل، يلعب دور الماضي على مستوى السرد كجنس أدبي. وبالموازاة مع ذلك، فإنّ الابن يلعب دوره على مستوى النص، ولكنه يلعب دور الحاضر على مستوى السرد كجنس أدبي. وبالتالي، فإنّ رغبة السارد في "إنصاف" الابن على مستوى النص، إنما تلعب دوراً موازياً عميقاً على مستوى السرد كجنس، ألا وهو "إعمال الحاضر". وأن رغبة السارد في "معاقبة" الأب على مستوى النص، إنما تلعب دوراً موازياً أيضاً على مستوى السرد كجنس، ألا وهو "إهمال الماضي". ففي هذا المسار يتوجّه السرد من مرحلة الإخبار التي تعكس الإقبار، إلى مرحلة الإنشاء التي تعكس الإحياء.

***

(1)                     محمد شكري: الخبز الحافي-سيرة ذاتية روائية، عن دار الساقي، ص 12.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق