هذا
الكتاب أقلّ شهرةً بكثير من أمهات كتب الأدب العربي التي تحدثنا عنها
سابقاً، كالأمالي والكامل والعقد الفريد، ولعله أقلّ شهرة حتى من مجالس
ثعلب، لكن مع ذلك يكاد يكون أفضل من الأمالي على مستوى انتقاء المادة
الأدبية، وبالتأكيد أفضل منه في التبويب، وإن كان في رتبته أو أقلّ من حيث
غزارة المادة. وهذا الكتاب من تأليف الوزير أبي سعيد منصور بن الحسين
الآبي، وهو فارسي وشيعي (إمامي)، لكنّ تشيّعه لم يتغلّب عليه في هذا
الكتاب، ويبدو أنّ له من الحس العلمي والنضج العاطفي والاتزان العقلي ما
يجعله مختلفاً عن كثير ممن قرأتُ لهم من المؤلفين الشيعة، لا أدري لماذا لم
يُحظ هذا الكتاب في عالم السنة بشهرة تضاهي الأمالي على الأقل.
حين
تبدأ قراءة الجزء الأول منه، تجد أنه كتاب ديني أكثر منه أدبي، ويمتد هذا
المسار إلى الصفحة 301، لكن بعد هذه الصفحة، يورد حوارات أدبية بليغة بديعة
ممتعة، تجعلك ترى أنه لا يمكن الاستغناء عنه بأيّ كتاب من باقي أمهات كتب
الأدب. وفي الجزء الثاني يتحدث عن الطرائف المقترنة بمعاوية، وقد أكثر من
الحديث عن هذا الخليفة، لكن دون أن يُظهر ميلاً لتجريحه أو تفسيده، وإنما
يتحدث عنه بحسّ علمي مريح جداً، حسّ يكشف فيه عن أديب مثقّف لا تهزّه
الأهواء بسهولة، ولا حتى بصعوبة، لم اجد في حديثه عن معاوية المكروه لدى
الشيعة اي سقطة صريحة، وطبعاً أنا أتحدث عن السقطات الأدبية والعلمية وليس
الدينية أو المذهبية، لأنّ هذه الامور لا تهمني إطلاقاً فيما أقرأ من
الآداب، فلا فرق عندي بين مؤمن وزنديق، كما أن معاوية بالنسبة إلي مجرد
حاكم كغيره من الحكام همهم الأول والأخير هو السلطة والثروة.
وكما أنّ
الآلي لا ينساق في حديثه عن معاوية إلى التفسيد، فكذلك لا ينساق في حديثه
عن علي بن أبي طالب إلى التصليح المطلق الذي يشارف التأليه كما هو معروف
لدى الكثير من الشيعة. وفي الجزء الثاني يتابع الحديث عن معاوية ويورد
حواراته وخطبه بشكل أكاد ألامس فيه نوعاً من التفصيح، أي كأنه يقدّم معاوية
على أنه من فصحاء العرب، وهذا يعني أنّ الآلي رجل لا يخشى في الأدب لومة
لائم، فهو ينتقي من آثار الأدب العربي ما يراه ذا قيمة بغض النظر عن
الاعتبارات المذهبية أو السياسية أو غيرها. وربما كان بوسعه أن يحوّل
معاوية إلى أضحوكة لو أراد، كما نجح ابن مماتي في تحويل قاراقوش إلى
أضحوكة، مع أنّ ابن مماتي ضعيف جدا في الأدب، وإن كان شيطاناً في رواية
الأدب، أو على الأقل كان شيطاناً في انتقائه الطرائف التي خرّب بها بيت
قاراقوش في كتابه الفاشوش.
ويتميز هذا الكتاب أيضاً بإحالة الأسانيد إلى
الهوامش، بدل أن يُغرق بها المتون، وهو في هذا يتساوى في العقد الفريد".
(في هذا فقط، أما الباقي فإنّ العقد الفريد أرقى وأغزر بكثير من نثر
الدرر). في هذا الجزء الثاني ينتقل للحديث عن عمر بن الخطّاب، وبرحابة صدر
غريبة عن المؤلفين الشيعة، بل إلى حد أنه ترضّى عنه ! وقد ذكره في العديد
من المواضع مع لازمة (رضي الله عنه). ويورد حواراً بديعاً بين عمر ومعاوية
عندما قدم عمر إلى الشام على ظهر حمار مع أبي عبيدة أو عبد الرحمان بن
عوف، ثم تابع استعراض النوادر المرتبطة بمعاوية، من حواره مع ابنه يزيد ومع
عمرو بن العاص. وقد ذكر نوادر سبق لي أن قرأتها في أمهات الكتب الأخرى.
وأورد عن معاوية أحياناً ما جعلني أحس كأنه يحاول أن يُطاول بفصاحته
وحكمته شيئاً مما جاء في نهج البلاغة لدى الشيعة، وربما يكون في ذلك تعريض
ذكي جداً بمعاوية !. وهو تعريض لا أملك إلا استبلاغه واستجماله لقدرة
المؤلّف على توريته وتثويته بين السطور. وكذلك يورد عن ابنه يزيد أقوالاً
بليغة كأنه يتعمّد تفصيحه، بدل أن يعمد إلى تعجيمه وتفسيقه كما جرت عادة
بعض المؤلفين الشيعة (ولا أقول كلهم). ويظهر جانب من تصليح معاوية في إيراد
الآلي لوصيته التي أوصى بها ابنه يزيد حيث يقول: " إن كنت بعدي-وكُنهُ
فابدأ بالخير". هنا يظهر التفصيح والتصليح معاً. فالتفصيح في قوله "وكُنه"،
أما التصليح ففي قوله "فابدأ بالخير". والسؤال المضحك؛ متى كان معاوية من
دعاة الخير؟. وأي خير استزاده يزيدُه غير قتل الحسين بن علي؟. ألا يكفي
هذا ويزيد؟ !.
إذن، فقد يكون في ظاهر العرض تصليح وتفصيح، وفي باطنه
تعريض وتغريض. لكنه تعريض من عالم أديب بارع في تعسيل السموم !. وإنّ
التعريض عندما يكون قائماً على السُّكاتة من البلاغة والحكمة، يصبح
مستملحاً ومستحسناً، هذا إن كان الآبي (وليس الواقع بالذات) من عرّض
بمعاوية وابنه يزيد !.
يتابع تقديم معاوية على أنه حكيم من حكماء العرب،
إذ يقول على لسانه: " آفة المروءة الكبر وإخوان السوء، وآفة العلم
النسيان، وآفة الحلم الذل، وآفة الجود السرف، وآفة القصد البخل، وآفة
المنطق الفحش، وآفة الجلد الكسل، وآفة الرزانة الكبر، وآفة الصمت العيّ،
وآفة اللب العجب، وآفة الظرف الصلف، وآفة الحياء الضعف".
ما شاء الله، لعمري أنّ كل هذه الآفات مجتمعة في تاريخ معاوية!. فكأنّ حكمته أنطقته (أو أنضحته) بما فيه وليس بما يعلمه.
وينتهج
الآلي نفس الحذر، (بل نفس الذكاء والرصانة والحس العلمي والذوق الأدبي) في
حديثه عن باقي خلفاء بني أمية مورداً حواراً طريفاً بين مروان وابنه،
ورسالته إلى النعمان بن بشير، حيث طلب تزويج ابنته لابنه عبد الملك، وهنا
يظهر أيضاً بأنّ تفصيح هؤلاء لا يزعج الآلي بتاتاً، فشتان بينه وبين من
وضعوا الضفادع في فم مسيلمة الكذاب بعد مقتله، حيث نسبوا إليه أقوالا سخيفة
لا تأتي حتى من أعتى مجانين الأعراب، وتناسوا بأنهم يتحدثون عن قائد محنك
استطاع أن يقود أكثر من 40 ألف مقاتل ضد مشروع محمد (ص). ما يعني أنّ
مسيلمة إن لم يكن من أفصح العرب، فعلى الأقل بريء تماماً من تلك الضفادع
وبناتها. الآبي في هذا الكتاب خصم مختلف لا متخلّف.
ومن الطرائف التي
أوردها عن بني مروان، أنّه في حديثه عن الوليد الذي كان لحّاناً أورد
تعزيته الركيكة والمضحكة لأبيه مروان في وفاة أخيه، حيث قال له مروان:
"مصيبتي فيك أعظم من مصيبتي بأخيك". وكما ذهب الآلي مذهب التركيك والتلحين
في حق الوليد بن عبد الملك، فقد اعترف للوليد بن يزيد بفصاحة وبلاغة، حيث
أورد وصفه العجيب لآلة العود، كما يُظهر فصاحته في خطبته التي برر فيها
انقلابه على ابن عمه الوليد بن يزيد. وهكذا طوال حديثه عن جميع الخلفاء
العباسيين.
ورغم ما يجرّ إليه الحديث عن هؤلاء الخلفاء من السرد
التاريخي القاحل، فإنّ الآبي يعرف جيداً كيف يحافظ على مسار كتابه الأدبي،
ولا يفوته أن يؤكد على أنه لم يُفرد هذا الكتاب للتاريخ، وإنما أفرده
للأدب، وإن كان فيه ميل مسهب إلى النصوص الدينية في البداية كما قلتُ، و
أحيانا يورد فيه أقوالاً لها قيمة كبيرة كحكمة، لكنها تفتقر قليلاً إلى
القيمة الأدبية. وفي الجزء الثالث يورد نوادر من كلام العرب مختصرة لكنها
ذات دلالات كبيرة، وتميل إلى الحكمة أكثر منها إلى الأدب. كقوله مثلا: "
بلوغ أعلى المنازل بغير استحقاق من أكبر أسباب الهلكة" فهذه حكمة بدون أدب.
وطبعا أقصد الأدب كفن وليس كأخلاق. وفي هذا الجزء يتحدث عن أجناس أدبية
أخرى من الأمثال أو المآثير، منها "ما جاء لفظه على لفظ الامر والنهي" على
حد وصفه، وهذا ايضاً يندرج ضمن الحكمة التي أعتبرها جنساً ثقافياً مستقلاً
عن الأدب، خلافاً لما يظن الكثير من العوام وحتى الدارسين. ورغم أن الفرق
واضح بين الحكمة والأدب، فإن هناك خلطا مزمنا بينهما لدى الكثير من العرب.
انظر مثلاً هذه النادرة التي وردت في الصفحة 93 من الجزء الثالث: " أدخل
على المنصور جاريتان فأعجبتاه، فقالت التي دخلت أولا: يا أمير المومنين، إن
الله قد فضلني على هذه بقوله والسابقون الأولون. فقالت الأخرى: لا بل قد
فضلني بقوله: وللآخرة خير لك من الأولى".
فهذا كلام جميل يطرب النفس،
ولكن جماله مستمدّ من حسن تحكيم العقل، وليس من بداعته أو بيانه وانسيابه
العاطفي الذي يعكس رهافة الحس. فالقيمة الأدبية لهذا الكلام شبه منعدمة،
لكن له قيمة في سرعة البداهة، وبالتالي فإن هذا الكلام ينتحي منحى الحكمة،
وإن كانت معانيه قريبة لا ترقى بمن يتوخّاها إلى مستوى الحكيم. ثم بعد هذه
المناوشات التي أشرنا إلى أنها تندرج في فن أو جنس الحكمة، يقف بنا المؤلف
أمام خطبة للحجّاج تفيض بديعاً وبياناً، حيث يقول: "أيها الناس من أعياه
داؤه فعندي دواؤه، ومن استبطأ أجله، فعليّ أن أعجله. ومن ثقل عليه رأسه
وضعت عنه ثقله، ومن استطال ماضي عمره، قصرت عليه باقيه. إنّ للشيطان طيفاً
وللسلطان سيفاً، فمن سقمت سريرته صحت عقوبته، ومن وضعه ذنبه رفعه صلبه، ومن
لم تسعه العافية، لم تضق عنه الهلكة.".
إلى قوله: "إني أنذر ثم لا أنظِر، وأحذر ثم لا أعذر، وأتوعد ثم لا أغفر، إنما أفسدكم ترنيق ولاتكم. ومن استرخى لببه ساء أدبه".
فالقيمة
الأدبية لهذه الخطبة واضحة وكبيرة، بخلاف كلام الجواري السابق ذكره. تأمّل
قوله: "من وضعه ذنبه رفعه صلبه" !. لاحظ كيف يجمع بين الوضع المعنوي
والرفع الحسي.
ويبدأ الجزء الرابع بـ "نكت من فصيح العرب وخطبهم" كما
وصفه، ويورد فيه نصوصاً سردية على شيء من الاستطالة تكاد تطاول بها القصة
القصيرة في عصرنا الحالي، وهي ليست على قدر كبير من البداعة، لكن طرافة
مضامينها تعوضها عن جمال الشكل، ويجب ألا يختلط الأمر على القارئ فيظن بأنّ
الطرائف الخالية من البديع والبيان خالية أيضاً من الأدب كما قلنا عن
أقوال الحكمة، وذلك لأنّ ابتداع الحكاية نفسه من جنس الأدب !. والخلاصة أنّ
هذا الكتاب ممتع ومقنع، ومفيد جداً، ليس للمهتمين بالأدب فحسب، بل حتى
للمهتمين بالحكمة ورجال الدين الدعاة، وأكرر أنه لا يرقى إلى العقد الفريد
ولا يمكن بأي حال أن يُغني عنه.
سعيد بودبوز
السبت، 14 أكتوبر 2023
ما قيمة كتاب "نثر الدر" في الأدب العربي؟
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق