السبت، 14 أكتوبر 2023

ما قيمة كتاب "مجالس ثعلب"؟



رغم أنّه أقلّ شهرةً من باقي أمهات الكتب الأدبية وعلى راسها "الكامل في اللغة والأدب"، فإنّ كتاب "مجالس ثعلب" برأيي لا يقل عنها أهمية. صحيح أنّ ابا العباس المبرّد من شيوخ مدرسة البصرة المتفوقة على مدرسة الكوفة في النحو، ولكن يبدو أنّ منافسه حول شياخة مدرسة بغداد أبا العباس ثعلب أفضل منه في رواية الأدب، وأدقّ منه في الدرس اللغوي. لكن من سلبيات مجالس ثعلب كثرة العنعنة، والإيجاز الشديد. أبو العباس ثعلب يملك ذوقاً أدبياً أرقى من المبرّد، ويظهر ذلك بوضوح في حسن انتقائه لمادته الأدبية سواء كانت نظماً أو نثراً. ولكنّه يتعامل مع المتلقّي كما لو كان خبيراً في التراث العربي!. ولهذا فإن كتابه بحاجة إلى شرح. وأيضا لا يوجد تبويب في هذا الكتاب، فهو عبارة عن متاهة واحدة لا يفصل بين مفاوزها سوى أجزاء الكتاب. لكن في المقابل، حتى وإن كان "الكامل" و"الأمالي" وغيرهما مبوّبة، فإن الشرود يظهر واضحاً على أصحابها، بحيث لا يلتزمون في المتون بما يقرّرونه في العناوين إلا نادراً، خاصة منافس ثعلب الذي يقطع أشواطا طويلة في كتابه الكامل قبل ان يتذكّر ما قرّره في باب من الأبواب، ومع ذلك قد يواصل شروده بدل ان يعجل بعرض ما قرره. ولهذا أعود وأقول إنّ لسان العرب قد يكون أفضل واكمل من هذه الكتب، وإن كنت أدرك بأن الكثير من المهتمين بالأدب العربي، بمن فيهم بعض أساتذة اللغة و الأداب، لا يدركون القيمة الحقيقية للسان العرب، فان الكثيرين منهم يعتبرونه مجرد معجم مثل العشرات من المعاجم، وهذا خطأ! وسوف أكتب في هذه الصفحة ما أرى وما أعتقد في لسان العرب.

نعود إلى ثعلب، هذا الكوفي الذي يكاد يبدو لي في مجلسه متفوّقاً على منافسه المبرّد البصري حتى في النحو!. مع ما أعرفه مسبقاً عن مدرسة الكوفة من إعمال السماع وإهمال القياس. يبدو ثعلب شديد الاطلاع على التراث العربي، ومع ذلك ربما تكون عنده مشكلة في التعامل مع بعض النصوص أو المفاهيم الدينية الإسلامية، (أقول ربما)، فعلى سبيل المثال; يرى أنّ "العقال" هو صدقة سنة!. أيّ أنّ العقال الذي أعلن أبو بكر الصديق انه سيحارب المرتدين لو منعوه عنه، إنما يعني الصدقات أو الزكاة التي تحصّلها الدولة الإسلامية في ظرف سنة!.

وأيضاً يفسّر ثعلب ما ورد في سورة البينة "اذلك الدين القيمة" بأنّ الدين هنا يعني الأمة، وحتى في مواضع أخرى من القرآن يرى أنّ الأمة تعني الدين!. وألاحظ إشكالاً آخر في تفسيره لما ورد في سورة يوسف; "وكانوا فيه من الزاهدين". فإنّ أبا العباس ثعلب يقول: "أي اشتروا على زهد منهم"!. يعني أنّ الذين اشتروا يوسف اشتروه مع أنهم لا يحتاجون إليه. وهذا غريب، لأنّ ما نعرفه من التفسير لهذه الآية هو أنّها تحيل على على "السيارة" اي العابرين الذين اخرجوه من الجب. وقد كانوا فيه من الزاهدين اذ باعوه بدراهم معدودات، وليس كما يقول أبو العباس ثعلب!. على أي حال، أنا لا أملك علماً ولا أعصاباً تمكّنني من تجريح أو تعديل أبي العباس ثعلب في هذه الأمور، فهو شديد الإيجاز والاقتضاب وكأنّه نبيّ قد أوتي من جوامع الكلم ما يجعل بيته من عاج وليس من زجاج!. ولكني أنظر إلى القيمة الأدبية واللغوية لهذا الكتاب، وعلى هذا الأساس أستنتج أنّ هذا الكتاب مفيد، وأعلى درجة من الأمالي، وأعلى درجة من الكامل في اللغة والأدب معاً، وأقلّ درجة من البيان والتبيين للجاحظ، دون زيادة ولا نقصان، والله أعلم.

سعيد بودبوز

ما قيمة كتاب "البديع" لابن المعتزّ؟





هذا أوّل كتاب تمّ تأليفه في علم البديع، وهو من تأليف عبد الله بن المعتزّ الخليفة العباسي الذي تولّى الخلافة لمدة يوم وليلة فقط!.
أوّلاً؛ يُقدّم الناشرون والمحقّقون هذا الكتاب على أنه أساسي في البديع، ولكن حين نقرؤه نجده يتحدث في أوّل باب عن الاستعارة. ولكي يستدلّ على ما قرّره في هذا العنوان الفرعي يورد آيات من قبيل؛ "واخفض لهما جناح الذل من الرحمة/اشتعل الرأس شيباً/عذاب يوم عقيم/أمّ الكتاب..". والسؤال المطروح؛ أين البديع في هذه الآيات؟.
وما علاقة الاستعارة بالبديع أصلاً؟. الاستعارة تدخل في علم البيان إلى جانب المجاز والكناية وغيرها.
ثانياً؛ في الباب الثاني نجد عنوان "التجنيس". نعم، التجنيس أو الجناس فنّ من فنون البديع، وكذلك ما جاء في الباب الثالث مما سماه المطابقة أو الطباق، لكن المشكلة أننا لا نكاد نجد للمؤلف بصمة اجتهاد في الشرح ولا في التوضيح، فهو يكتفي بخطّ العناوين وإيراد الآيات والأبيات التي يرى في مضامينها ما يستدلّ به على ما قرّره في تلك العناوين.
ثالثاً؛ في الصفحة 72 يقول بأنّه قد انتهى من أبواب البديع الخمسة، والتي هي في الواقع أربعة فقط، لأنّ الاستعارة كما قلنا تدخل في البيان وليس في البديع. ثم يقول في نفس الصفحة: "وما جمع فنون البديع ولا سبقني إليه أحد وألفته سنة أربع وسبعين ومأتين". هذه العبارة جعلتني أشكّ في نسبة هذا الكتاب إلى ابن المعتزّ أصلاً!.
وبعد ذلك يستأنف عرض المزيد مما سمّاه محسّنات الشعر والكلام، ويذكر مثلاً "التورية"، ولا أفهم لماذا لم يجعلها باباً سادساً من أبواب البديع التي أعلن عن اكتشافها؟. ولماذا استهلّ كتابه بالحديث عن الاستعارة التي ليست بديعاً بدل أن يبدأ بالحديث عن التورية التي تدخل في علم البديع؟. كيف يقرّر ناشرون أو محققون بأنّ ابن المعتزّ هذا اكتشف 18 فنّاً من فنون البديع وهو يقول خمسة فقط؟.
الخلاصة أنّ هذا الكتاب، وإن كان الأوّل في البديع، لا أراه ذا فائدة كبيرة، بل ربما يسبّب خلطاً والتباساً لدى القارئ بسبب ما يحيط به من التدليس وما يحتويه من الفوضى، والله أعلم.

سعيد بودبوز 

لماذا تصف نهج البلاغة بالكئيب؟



طُرح هذا السؤال عليّ بكثرة من طرف المعلقين، أو لعله مجرد شخص واحد شيعي معاقّ ذهنياً يكرّر طرحه بمختلف الأسماء المستعارة وبهستيرية أو على إيقاع نوبات الصرع والسعار المتتالية والملازمة لضحايا الأديان، وهؤلاء المعاقّون معروفون بأنّهم لا يقبلون من أي كاتب أو ناطق إلا أن يُقدّس كل آثارهم وثيرانهم وروثهم تقديساً تامّاً غير منقوص. لم يستطيعوا ابتلاع قولي بأنّ نهج البلاغة جميل وكئيب في نفس الوقت، وقد تجاهلوا كل ما قلتُ في جماله من الإيجابيات، وشتموني شتماً فاحشاً لمجرد أن قلتُ بأنه كئيب!. والحقيقة أنّ ما أقوله في نهج البلاغة هو ما أنا مقتنع به، فلا يهمني الشيعي المريض الزومبي الميؤوس من شفائه. أقول ما أرى، وإذا لم تقبل يا عزيزي الزومبي، فلك أن تنطح جدران الفيسبوك إلى ما شاء ربّك.

سأوضح هذا الإشكال للقارئ المفترض الذي يملك عقلاً. إن نهج البلاغة يشبه امرأة جميلة ساحرة الوجه ذات بشرة ناعمة لامعة، فاتنة إلى حد السيف، بل إلى حدّ الفتنة الكبرى، لكنها دائمة التذمّر، والتحسّر، والشكاوي والتباكي، لا حديث لها إلا عن فشلها الذريع في الحياة، وعندما تجلس معها لا يكاد حُسنها يزيل حُزنك، بل يزيده!. فهذا هو شأن نهج البلاغة عندما نقارن جماله البلاغي بمضامينه التي يمتدّ بؤسها من أول الكتاب إلى آخره، فلا حديث لصاحب النص إلا عن إخفاقاته العسكرية، وعثراته السياسية، وعن فتوحاته في النحس والشؤم وسوء الحظـ وانفضاض الناس من حوله، واحتشادهم لنصرة عدوّه عليه. المضامين عبارة عن ويلات لا أوّل لها ولا آخر، من هنا تأتي الكآبة. وهنا يُستحسن أن تفتح باباً من أبواب كليلة ودمنة كي تتنفّس هواء المرح المنعش حتى لا تختنق. عندما تغرق في جواحيم النهروان وصفّين والجمل، وتقرأ في هذا الكتاب كيف أنّ تاريخ الإسلام سقته وروته أنهار من الدماء، فلعلّ أفضل شيء تفعله بين خطبة وأخرى، هو أن تفتح باب القرد والغيلم مثلاً لتلتقط أنفاس الهزل والمرح كي لا تُصاب بالاكتئاب.
عندما أتحدث عن جمال المظهر والجوهر في هذا الكلاب، فأنا لا أعني المضمون بتاتاً. بل أعني فنون البديع التي تمتع الأبصار، وفنون البيان التي تقنع البصيرة. فلا أعتقد أن هناك فنا بلاغيا لم يتوشّح به نعج البلاغة. ففي ما يترصّع به من فنون البديع، حدّث عن السجع والجناس والطباق والتورية والاقتباس والمقابلة وغيرها من المحسّنات ولا حرج. وفي البيان حدّث عمّا يخالجه من المجاز والكناية والاستعارات ومختلف التشابيه ولا حرج. فالبيان هو المقصود عندي بالجوهر وليس مضامين الخُطب المثيرة للكآبة!.
سعيد بودبوز


ما هي القيمة البلاغية لرسالة الملائكة؟

 




هذا أوّل كتاب تمّ تأليفه في علم البديع، وهو من تأليف عبد الله بن المعتزّ الخليفة العباسي الذي تولّى الخلافة لمدة يوم وليلة فقط!.
أوّلاً؛ يُقدّم الناشرون والمحقّقون هذا الكتاب على أنه أساسي في البديع، ولكن حين نقرؤه نجده يتحدث في أوّل باب عن الاستعارة. ولكي يستدلّ على ما قرّره في هذا العنوان الفرعي يورد آيات من قبيل؛ "واخفض لهما جناح الذل من الرحمة/اشتعل الرأس شيباً/عذاب يوم عقيم/أمّ الكتاب..". والسؤال المطروح؛ أين البديع في هذه الآيات؟.
وما علاقة الاستعارة بالبديع أصلاً؟. الاستعارة تدخل في علم البيان إلى جانب المجاز والكناية وغيرها.
ثانياً؛ في الباب الثاني نجد عنوان "التجنيس". نعم، التجنيس أو الجناس فنّ من فنون البديع، وكذلك ما جاء في الباب الثالث مما سماه المطابقة أو الطباق، لكن المشكلة أننا لا نكاد نجد للمؤلف بصمة اجتهاد في الشرح ولا في التوضيح، فهو يكتفي بخطّ العناوين وإيراد الآيات والأبيات التي يرى في مضامينها ما يستدلّ به على ما قرّره في تلك العناوين.
ثالثاً؛ في الصفحة 72 يقول بأنّه قد انتهى من أبواب البديع الخمسة، والتي هي في الواقع أربعة فقط، لأنّ الاستعارة كما قلنا تدخل في البيان وليس في البديع. ثم يقول في نفس الصفحة: "وما جمع فنون البديع ولا سبقني إليه أحد وألفته سنة أربع وسبعين ومأتين". هذه العبارة جعلتني أشكّ في نسبة هذا الكتاب إلى ابن المعتزّ أصلاً!.
وبعد ذلك يستأنف عرض المزيد مما سمّاه محسّنات الشعر والكلام، ويذكر مثلاً "التورية"، ولا أفهم لماذا لم يجعلها باباً سادساً من أبواب البديع التي أعلن عن اكتشافها؟. ولماذا استهلّ كتابه بالحديث عن الاستعارة التي ليست بديعاً بدل أن يبدأ بالحديث عن التورية التي تدخل في علم البديع؟. كيف يقرّر ناشرون أو محققون بأنّ ابن المعتزّ هذا اكتشف 18 فنّاً من فنون البديع وهو يقول خمسة فقط؟.
الخلاصة أنّ هذا الكتاب، وإن كان الأوّل في البديع، لا أراه ذا فائدة كبيرة، بل ربما يسبّب خلطاً والتباساً لدى القارئ بسبب ما يحيط به من التدليس وما يحتويه من الفوضى، والله أعلم.
سعيد بودبوز

ما هي القيمة البلاغية والأدبية للزوميات المعرّي؟.


سبق أن تحدّثت عن المعرّي الذي لا أرى وزنه في الأدب العربي يرقى إلى مستوى شهرته، وتلقيت الكثير من التعاليق الشاتمة ممن يجعلونه شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء، وقد عبّرت عن رأيي في رسالة الغفران التافهة. والان سأتحدث عن قيمة اللزوميات. أوّلاً؛ بالنسبة لمن يجعلونه شاعرَ الفلاسفة، أقول؛ إذا كان ثمة من يرى جودة هذه اللزوميات مستمدّة من البديع، فليعلم بأنّ المعرّي كان في هذه اللزوميات قصير النفس إلى حد الرداءة، حيث أنه لا يكاد يتجاوز 30 بيتاً بقافية واحدة إلا بشق النفس. وكثيراً ما نجد مقاطع تتكوّن من ثلاثة أبيات!. فهل هذه قدرة بلاغية بديعية يُعتدّ بها؟. ثم هل يعرف المنبهرون باللزوميات ماذا كتب الأدباء الكبار في البديعيات؟. يُخيّل إليّ أن الكثيرين من هؤلاء لا فكرة لديهم عن البديعيات، وإلا فأين لزوميات المعرّي من بديعيات الحلّي مثلاً؟!.
أو دعك من الحلي، وخذ مثلاً ابن جابر الأندلسي، وهو ضرير مثل المعرّي، ولكن أين لزوميات المعرّي من بديعيات الأندلسي؟.
إذا لم يستطع المعرّي أن يتجاوز 40 بيتاً في لون واحد من ألوان البديع (لزوم ما لا يلزم) فكيف يأتي بقصيدة مثل قصيدة ابن جابر الأندلسي التي تتألف من 177 بيتاً، وكل بيت ملزم بلون واحد من ألوان البديع!؟. وقد قسّمها إلى قسمين، واحد للمحسنات اللفظية، والثاني للمحسنات المعنوية، وقد وظّف في تلك القصيدة 60 نوعاً من أنواع الجناس فقط!. للمزيد حول الموضوع، انظر كتاب "البديعيات" لعلي أبي زيد. أما لو قارنا لزوميات المعرّي مع ما جاء به شعبان الأثاري في البديعيات، فالسلام على المعرّي!.
تخيّل قصيدة تتألف من 400 بيت بقافية واحدة، وكل بيت ملزم باحتواء نوع واحد من أنواع البديع!. لعمري إنّ هذا لا يأتي به سوى شعبان الأثاري أو عفريت من الجن. ولا أتصوّر أن من يقرأ تلك البديعيات يرى أية قيمة بلاغية في لزوميات المعرّي، أما مضامين هذه اللزوميات، فهي متواضعة. أنا لا أبخّس مهارة المعري، ولكني لا أعطيه أكثر مما يستحق، وسوف أتحدث عن باقي كتبه لاحقاً.
ثانياً؛ بالنسبة لمن يعتبرونه فيلسوفَ الشعراء، فإذا كانوا يعرفون له كتاباً في مجال الفلسفة فأتمنى أن يقترحوه عليّ كي أعرف كيف للمعرّي أن يكون فيلسوفاً. أما كتبه الأدبية، فإني أراه فيها أقل حكمةً وتفلسفاً من ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد، مع أنّ ابن عبد ربه لا يصفه أحد بالفيلسوف، فهو أديب وراوٍ بارع للأدب، وسوف أتحدث عن كتابه العقد الفريد في هذه الصفحة.
والخلاصة أنني أرى أن ديوان اللزوميات للمعرّي مفيد للمهتمين بالأدب، ولكن ليس بالقدر الذي يتخيّله ضحايا الشائعات والفقاعات، فنحن نعرف بأنّ المترجمين العرب غشاشون وظالمون، ويكفيك أن تعرف قصتهم المخزية مع الأديب الكبير أبي حيان التوحيدي، حيث أقصوه من تراجمهم ولم يدكره منهم إلا القلة القليلة، مع أنه في فنّ النثر لا يمكن أن يرقى إليه المعرّي بأيّ حال.
سعيد بودبوز


ما قيمة كتاب "نثر الدر" في الأدب العربي؟


هذا الكتاب أقلّ شهرةً بكثير من أمهات كتب الأدب العربي التي تحدثنا عنها سابقاً، كالأمالي والكامل والعقد الفريد، ولعله أقلّ شهرة حتى من مجالس ثعلب، لكن مع ذلك يكاد يكون أفضل من الأمالي على مستوى انتقاء المادة الأدبية، وبالتأكيد أفضل منه في التبويب، وإن كان في رتبته أو أقلّ من حيث غزارة المادة. وهذا الكتاب من تأليف الوزير أبي سعيد منصور بن الحسين الآبي، وهو فارسي وشيعي (إمامي)، لكنّ تشيّعه لم يتغلّب عليه في هذا الكتاب، ويبدو أنّ له من الحس العلمي والنضج العاطفي والاتزان العقلي ما يجعله مختلفاً عن كثير ممن قرأتُ لهم من المؤلفين الشيعة، لا أدري لماذا لم يُحظ هذا الكتاب في عالم السنة بشهرة تضاهي الأمالي على الأقل.
حين تبدأ قراءة الجزء الأول منه، تجد أنه كتاب ديني أكثر منه أدبي، ويمتد هذا المسار إلى الصفحة 301، لكن بعد هذه الصفحة، يورد حوارات أدبية بليغة بديعة ممتعة، تجعلك ترى أنه لا يمكن الاستغناء عنه بأيّ كتاب من باقي أمهات كتب الأدب. وفي الجزء الثاني يتحدث عن الطرائف المقترنة بمعاوية، وقد أكثر من الحديث عن هذا الخليفة، لكن دون أن يُظهر ميلاً لتجريحه أو تفسيده، وإنما يتحدث عنه بحسّ علمي مريح جداً، حسّ يكشف فيه عن أديب مثقّف لا تهزّه الأهواء بسهولة، ولا حتى بصعوبة، لم اجد في حديثه عن معاوية المكروه لدى الشيعة اي سقطة صريحة، وطبعاً أنا أتحدث عن السقطات الأدبية والعلمية وليس الدينية أو المذهبية، لأنّ هذه الامور لا تهمني إطلاقاً فيما أقرأ من الآداب، فلا فرق عندي بين مؤمن وزنديق، كما أن معاوية بالنسبة إلي مجرد حاكم كغيره من الحكام همهم الأول والأخير هو السلطة والثروة.
وكما أنّ الآلي لا ينساق في حديثه عن معاوية إلى التفسيد، فكذلك لا ينساق في حديثه عن علي بن أبي طالب إلى التصليح المطلق الذي يشارف التأليه كما هو معروف لدى الكثير من الشيعة. وفي الجزء الثاني يتابع الحديث عن معاوية ويورد حواراته وخطبه بشكل أكاد ألامس فيه نوعاً من التفصيح، أي كأنه يقدّم معاوية على أنه من فصحاء العرب، وهذا يعني أنّ الآلي رجل لا يخشى في الأدب لومة لائم، فهو ينتقي من آثار الأدب العربي ما يراه ذا قيمة بغض النظر عن الاعتبارات المذهبية أو السياسية أو غيرها. وربما كان بوسعه أن يحوّل معاوية إلى أضحوكة لو أراد، كما نجح ابن مماتي في تحويل قاراقوش إلى أضحوكة، مع أنّ ابن مماتي ضعيف جدا في الأدب، وإن كان شيطاناً في رواية الأدب، أو على الأقل كان شيطاناً في انتقائه الطرائف التي خرّب بها بيت قاراقوش في كتابه الفاشوش.
ويتميز هذا الكتاب أيضاً بإحالة الأسانيد إلى الهوامش، بدل أن يُغرق بها المتون، وهو في هذا يتساوى في العقد الفريد". (في هذا فقط، أما الباقي فإنّ العقد الفريد أرقى وأغزر بكثير من نثر الدرر). في هذا الجزء الثاني ينتقل للحديث عن عمر بن الخطّاب، وبرحابة صدر غريبة عن المؤلفين الشيعة، بل إلى حد أنه ترضّى عنه ! وقد ذكره في العديد من المواضع مع لازمة (رضي الله عنه). ويورد حواراً بديعاً بين عمر ومعاوية عندما قدم عمر إلى الشام على ظهر حمار مع أبي عبيدة أو عبد الرحمان بن عوف، ثم تابع استعراض النوادر المرتبطة بمعاوية، من حواره مع ابنه يزيد ومع عمرو بن العاص. وقد ذكر نوادر سبق لي أن قرأتها في أمهات الكتب الأخرى. وأورد عن معاوية أحياناً ما جعلني أحس كأنه يحاول أن يُطاول بفصاحته وحكمته شيئاً مما جاء في نهج البلاغة لدى الشيعة، وربما يكون في ذلك تعريض ذكي جداً بمعاوية !. وهو تعريض لا أملك إلا استبلاغه واستجماله لقدرة المؤلّف على توريته وتثويته بين السطور. وكذلك يورد عن ابنه يزيد أقوالاً بليغة كأنه يتعمّد تفصيحه، بدل أن يعمد إلى تعجيمه وتفسيقه كما جرت عادة بعض المؤلفين الشيعة (ولا أقول كلهم). ويظهر جانب من تصليح معاوية في إيراد الآلي لوصيته التي أوصى بها ابنه يزيد حيث يقول: " إن كنت بعدي-وكُنهُ فابدأ بالخير". هنا يظهر التفصيح والتصليح معاً. فالتفصيح في قوله "وكُنه"، أما التصليح ففي قوله "فابدأ بالخير". والسؤال المضحك؛ متى كان معاوية من دعاة الخير؟. وأي خير استزاده يزيدُه غير قتل الحسين بن علي؟. ألا يكفي هذا ويزيد؟ !.
إذن، فقد يكون في ظاهر العرض تصليح وتفصيح، وفي باطنه تعريض وتغريض. لكنه تعريض من عالم أديب بارع في تعسيل السموم !. وإنّ التعريض عندما يكون قائماً على السُّكاتة من البلاغة والحكمة، يصبح مستملحاً ومستحسناً، هذا إن كان الآبي (وليس الواقع بالذات) من عرّض بمعاوية وابنه يزيد !.
يتابع تقديم معاوية على أنه حكيم من حكماء العرب، إذ يقول على لسانه: " آفة المروءة الكبر وإخوان السوء، وآفة العلم النسيان، وآفة الحلم الذل، وآفة الجود السرف، وآفة القصد البخل، وآفة المنطق الفحش، وآفة الجلد الكسل، وآفة الرزانة الكبر، وآفة الصمت العيّ، وآفة اللب العجب، وآفة الظرف الصلف، وآفة الحياء الضعف".
ما شاء الله، لعمري أنّ كل هذه الآفات مجتمعة في تاريخ معاوية!. فكأنّ حكمته أنطقته (أو أنضحته) بما فيه وليس بما يعلمه.
وينتهج الآلي نفس الحذر، (بل نفس الذكاء والرصانة والحس العلمي والذوق الأدبي) في حديثه عن باقي خلفاء بني أمية مورداً حواراً طريفاً بين مروان وابنه، ورسالته إلى النعمان بن بشير، حيث طلب تزويج ابنته لابنه عبد الملك، وهنا يظهر أيضاً بأنّ تفصيح هؤلاء لا يزعج الآلي بتاتاً، فشتان بينه وبين من وضعوا الضفادع في فم مسيلمة الكذاب بعد مقتله، حيث نسبوا إليه أقوالا سخيفة لا تأتي حتى من أعتى مجانين الأعراب، وتناسوا بأنهم يتحدثون عن قائد محنك استطاع أن يقود أكثر من 40 ألف مقاتل ضد مشروع محمد (ص). ما يعني أنّ مسيلمة إن لم يكن من أفصح العرب، فعلى الأقل بريء تماماً من تلك الضفادع وبناتها. الآبي في هذا الكتاب خصم مختلف لا متخلّف.
ومن الطرائف التي أوردها عن بني مروان، أنّه في حديثه عن الوليد الذي كان لحّاناً أورد تعزيته الركيكة والمضحكة لأبيه مروان في وفاة أخيه، حيث قال له مروان: "مصيبتي فيك أعظم من مصيبتي بأخيك". وكما ذهب الآلي مذهب التركيك والتلحين في حق الوليد بن عبد الملك، فقد اعترف للوليد بن يزيد بفصاحة وبلاغة، حيث أورد وصفه العجيب لآلة العود، كما يُظهر فصاحته في خطبته التي برر فيها انقلابه على ابن عمه الوليد بن يزيد. وهكذا طوال حديثه عن جميع الخلفاء العباسيين.
ورغم ما يجرّ إليه الحديث عن هؤلاء الخلفاء من السرد التاريخي القاحل، فإنّ الآبي يعرف جيداً كيف يحافظ على مسار كتابه الأدبي، ولا يفوته أن يؤكد على أنه لم يُفرد هذا الكتاب للتاريخ، وإنما أفرده للأدب، وإن كان فيه ميل مسهب إلى النصوص الدينية في البداية كما قلتُ، و أحيانا يورد فيه أقوالاً لها قيمة كبيرة كحكمة، لكنها تفتقر قليلاً إلى القيمة الأدبية. وفي الجزء الثالث يورد نوادر من كلام العرب مختصرة لكنها ذات دلالات كبيرة، وتميل إلى الحكمة أكثر منها إلى الأدب. كقوله مثلا: " بلوغ أعلى المنازل بغير استحقاق من أكبر أسباب الهلكة" فهذه حكمة بدون أدب. وطبعا أقصد الأدب كفن وليس كأخلاق. وفي هذا الجزء يتحدث عن أجناس أدبية أخرى من الأمثال أو المآثير، منها "ما جاء لفظه على لفظ الامر والنهي" على حد وصفه، وهذا ايضاً يندرج ضمن الحكمة التي أعتبرها جنساً ثقافياً مستقلاً عن الأدب، خلافاً لما يظن الكثير من العوام وحتى الدارسين. ورغم أن الفرق واضح بين الحكمة والأدب، فإن هناك خلطا مزمنا بينهما لدى الكثير من العرب. انظر مثلاً هذه النادرة التي وردت في الصفحة 93 من الجزء الثالث: " أدخل على المنصور جاريتان فأعجبتاه، فقالت التي دخلت أولا: يا أمير المومنين، إن الله قد فضلني على هذه بقوله والسابقون الأولون. فقالت الأخرى: لا بل قد فضلني بقوله: وللآخرة خير لك من الأولى".
فهذا كلام جميل يطرب النفس، ولكن جماله مستمدّ من حسن تحكيم العقل، وليس من بداعته أو بيانه وانسيابه العاطفي الذي يعكس رهافة الحس. فالقيمة الأدبية لهذا الكلام شبه منعدمة، لكن له قيمة في سرعة البداهة، وبالتالي فإن هذا الكلام ينتحي منحى الحكمة، وإن كانت معانيه قريبة لا ترقى بمن يتوخّاها إلى مستوى الحكيم. ثم بعد هذه المناوشات التي أشرنا إلى أنها تندرج في فن أو جنس الحكمة، يقف بنا المؤلف أمام خطبة للحجّاج تفيض بديعاً وبياناً، حيث يقول: "أيها الناس من أعياه داؤه فعندي دواؤه، ومن استبطأ أجله، فعليّ أن أعجله. ومن ثقل عليه رأسه وضعت عنه ثقله، ومن استطال ماضي عمره، قصرت عليه باقيه. إنّ للشيطان طيفاً وللسلطان سيفاً، فمن سقمت سريرته صحت عقوبته، ومن وضعه ذنبه رفعه صلبه، ومن لم تسعه العافية، لم تضق عنه الهلكة.".
إلى قوله: "إني أنذر ثم لا أنظِر، وأحذر ثم لا أعذر، وأتوعد ثم لا أغفر، إنما أفسدكم ترنيق ولاتكم. ومن استرخى لببه ساء أدبه".
فالقيمة الأدبية لهذه الخطبة واضحة وكبيرة، بخلاف كلام الجواري السابق ذكره. تأمّل قوله: "من وضعه ذنبه رفعه صلبه" !. لاحظ كيف يجمع بين الوضع المعنوي والرفع الحسي.
ويبدأ الجزء الرابع بـ "نكت من فصيح العرب وخطبهم" كما وصفه، ويورد فيه نصوصاً سردية على شيء من الاستطالة تكاد تطاول بها القصة القصيرة في عصرنا الحالي، وهي ليست على قدر كبير من البداعة، لكن طرافة مضامينها تعوضها عن جمال الشكل، ويجب ألا يختلط الأمر على القارئ فيظن بأنّ الطرائف الخالية من البديع والبيان خالية أيضاً من الأدب كما قلنا عن أقوال الحكمة، وذلك لأنّ ابتداع الحكاية نفسه من جنس الأدب !. والخلاصة أنّ هذا الكتاب ممتع ومقنع، ومفيد جداً، ليس للمهتمين بالأدب فحسب، بل حتى للمهتمين بالحكمة ورجال الدين الدعاة، وأكرر أنه لا يرقى إلى العقد الفريد ولا يمكن بأي حال أن يُغني عنه.
سعيد بودبوز


ما قيمة كتاب الأغاني في الأدب العربي؟


ينتمي هذا الكتاب إلى كتب التراجم، وينطلق من رواية تقول بأنّ هارون الرشيد طلب من المغنين أن يختاروا له 100 أغنية، على أن يختاروا منها بعد ذلك عشراً، ثم ثلاثاً. ويقوم هذا الكتاب على جمع التراجم التي تخص كل من لهم علاقة بهذه الأغاني المئة، ويضمّ 541 ترجمة، منها حوالي 30 ترجمة للنساء. والحقيقة أنّ هذا الكتاب له قيمة كبيرة في التراث العربي، ولكنّ قيمته في الأدب خصوصاً ضعيفة وليست بالقدر الذي نستشفه عندما نتصفح الجزء الأوّل. ولو عقدنا مفاضلة بين هذا الكتاب وأمهات الكتب الأدبية المشهورة، فسنجد أنه لا يتجاوز مستوى "بهجة المجالس وأنس المجالس" لابن عبد البر، والذي أراه شخصياً أقلّ قيمة من "مجالس ثعلب" رغم أنّ أكثر منه شهرةً، وبالتأكيد لا يرقى كتاب الأغاني إلى مستوى "العقد الفريد" بأيّ حال. فرغم أنّ الأصفهاني أديب وليس مجرد راوٍ للأدب مثل أبي العباس المبرّد صاحب "الكامل في اللغة والأدب"، فإنّ أداءه اللغوي في كتاب الأغاني لا يتجاوز مستوى التراجم العربية. فلا بَداعة ولا بيان ولا تبيين، ولا إبداع ولا إمتاع في المعاني ولا في المباني، ولكنه غزير في أخبار العرب له قيمة كبيرة في التاريخ الفني للعرب سواء قبل أو بعد ظهور الإسلام. وبفضل هذا الكتاب نلاحظ بسهولة غياب الشعور الوطني لدى الانسان العربي المسلم، فالأغنية الوطنية منعدمة!. وطبعاً نلاحظ شحاً كبيراً في الترجمة للنساء، مع أنّ للجواري دوراً بارزاً في أداء تلك الأغاني، ما يعني أنّ المرأة شبه غائبة عن الوعي العربي الإسلامي. النص التاريخي عادةً لا يدرك المجتمعات ولا الثقافات، وإنما يركز على القادة السياسيين والعسكريين، وهذا يعني أنّ لكتاب الأغاني دوراً كبيراً في التاريخ العربي الإسلامي، لأنّه ينقل إلينا من دقائق المجتمع وعاداته ونظرته إلى الفنّ ما يعجز النص التاريخي عن نقله. مثلاً؛ النص التاريخي ينقل إلينا فتوحات الخلفاء وترتيبهم وتعاقبهم على السلطة، ولكنه لا يخبرنا كيف كان بعضهم يغني وكيف كانوا يتفاعلون مع المغنين، وهذا ما نجده في كتاب الأغاني مفصلاً. وكمثال آخر؛ انظر المجلّد 16 حيث يتحدث عن سكينة بنت الحسين (بن علي بن أبي طالب) وكيف كانت تعشق الغناء والمغنين، وانظر أيضا المجلّد 17 حيث يتحدث عن قصتها مع ابن سريج، وكيف أن عشقها للغناء دفعها لتأمر خادماتها بضرب عبد لها لأنّه حاول أن يقنعها بالاستغناء عن مغنّي بارع، فلم يسترضيها إلا بعدما جاءها بذلك المغني. هذه الأحداث لا يدركها النص التاريخي. وقد تكون مجرد خرافات، لكنها مع ذلك تسمح لنا بجس نبض المجتمع العربي في زمن الأصفهاني على الأقل، ومعرفة حجم الهامش المسموح به من حرية التأليف، وكيف تسمح الدولة العباسية لهذا الأصفهاني بأن يصول ويجول في بغداد وهو من بقايا مروان بن محمد آخر خلفاء الدولة الأموية!. وقد عاش الأصفهاني بين 284 و356 هجرية، أي أنه ينتمي إلى العصر العباسي الثاني والثالث، حيث يبدو أنّه عاصر من خلفاء العصر العباسي الثاني؛ المكتفي، والمقتدر، والمرتضى، والقاهر، والمقتدر (الثاني)، والقاهر (الثاني)، والراضي، والمتقي، والمستكفي. وهنا ينتهي العصر العباسي الثاني بدخول البويهيين (الفرس) وسيطرتهم على الخلافة. ثم عاصر الأصفهاني من خلفاء العصر العباسي الثالث؛ المستكفي (الذي تابع ولايته في هذا العصر تحت سيطرة البويهيين)، ثم المطيع، وإلى هنا تنتهي حياة الأصفهاني، فهل كان في جرأته الأدبية شيء من دعم البويهيين؟. هذا أمر آخر. المهم أنّ هذا الكتاب مهمّ جداً في التراث العربي، ولكنه ليس ذا قيمة كبيرة في الأدب خصوصاً.
سعيد بودبوز

ما قيمة كتاب "بهجة المَجالس وأنس المُجالس" في الأدب العربي؟


عندما نقرأ المقدمة، نشعر بشيء من الدسم البديعي، لكن سرعان ما يتلاشى ونجد أنفسنا أمام أسلوب فقهي أكثر منه أدبي. وأوّل ما نلاحظ أنّ لغة يوسف بن عبد البرّ لا تتجاوز مستوى رواة الدين أو في أفضل الأحوال لا تتجاوز مستوى رواة الأدب أمثال أبي علي القالي وأبي العباس المبرّد (هذا المبرّد عظيم في النحو، لكنه ضعيف جداً في الأدب). ثم نقرأ في الجزء الأوّل حديثاً جيداً عن أدب الجلوس والمجالس، بعد ذلك نلاحظ أنّ المؤلّف يكثر من الاقتباس والاستشهاد بأقوال وأخبار رموز الدين وليس رموز الأدب إن جاز التعبير، إضافة إلى أنّه يكثر من عرض الأسانيد في المتن بدل أن يُصرفها للهوامش، وكأنّه يسير على منوال كتب الأحاديث النبوية. ثم نلاحظ أنّ المؤلّف ليس لديه رؤية واضحة للأغراض الأدبية؛ فهناك خلط بين الأدب والدين، وإن كان يستشهد بالأشعار والأمثال وأحياناً قليلة بالنوادر والطرائف، لكن الطرائف الجيدة بحاجة أيضاً إلى ذوق أدبي رفيع من أديب بارع كالجاحظ والتوحيدي وأمثالهما.
يبدو لي أنّ يوسف ابن عبد البر لم يقرأ كتاب الأغاني للأصفهاني، ولا كتاب الحيوان للجاحظ، ولا مجالس ثعلب، ولا كتاب الكامل للمبرّد، ولا أمالي القالي، ولا شيءَ مما كتبه أبو حيان التوحيدي الذي عاصره (وإن كان يكبره بحوالي 60 سنة)، ولا أقول "أدب الكاتب" لابن قتيبة الدينوري، لأنّ المجالين متباعدان. ولأنّ يوسف بن عبد البر لم يستوعب ما كتبه السابقون في هذا المجال على ما يبدو، فلذلك يقفز مباشرة إلى الرواة القدماء وأبرزهم الأصمعي الذي هو مرجع أساسي للأدباء المذكورين، وطبعاً يكثر من الارتواء بروايات رجال الدين ويكثر من الاستشهاد بأقوال الرسول محمد (ص)، وهذا يؤكّد تغليبه النزعة الدينية على الفنّ الأدبي، وكثيراً ما تختلط عليه المقاييس فيحتكم للحلال والحرام بدل الجيّد والرديء، ويقتبس من الأشعار والأخبار ما يخدم الوعظ الديني بصرف النظر عن جودته أو رداءته الأدبية. ومع ذلك يطلق العنان لقلمه إلى حدّ التفحّش في الجزء الثالث، حيث يتحدث عن تبادل الرسائل بين الولاة كالحجاج ويزيد بن المهلّب وكيف كانوا يختارون النساء بناءً على مآثرهن الجسدية، فيظهرون كمجموعة من السكارى أو الحمقى. وقد يسهب في استعراض مظاهر أدبية لكنّها ملجَمة بأغراض دينية، ليس لأنّ يوسف شديد التديُّن، بل لأنّه ببساطة قليل الاطلاع على أمهات كتب الأدب، وإنّ هذا الاستنتاج لا يحتاج إلى كثير من الذكاء والتحليل والتعليل، فمن الواضح أنّ قوّة التراكم الأدبي والعلمي المخزّنة في تلك الكتب لا تكاد تظهر في كتابه "بهجة المجالس" ولم تحقق فيه أي تطوّر. عندما نقرأ "العقد الفريد" مثلاً، نلاحظ بوضوح أنه امتداد متطوّر لكتب الأدب السابقة ككتاب "الحيوان" و"مجالس ثعلب" و"الكامل" للمبرّد و"أدب الكاتب" للدينوري الذي عاصره (ويكبره بحوالي 33 سنة) سواء صرّح ابن عبد ربه بقراءة تلك الكتب أو لم يصرّح، المهمّ أنّ التراكم الأدبي والعلمي الذي تحمله تلك الكتب تمّ استثماره في العقد الفريد ليظهر بشكل متطوّر، وهذا غير موجود لدى يوسف بن عبد البر، فبدل أنّ يأتي كتابُه "بهجة المجالس" أكثر تطوّراً من العقد الفريد نفسه، نجد أنه يعود بمرتبته الضعيفة إلى ما قبل مجالس ثعلب !.
ليس عيباً ولا نقصاً أن يميل المؤلّف كلّ الميل إلى الدين على حساب الأدب، فكل ما في الأمر أنّ هذا الكتاب لا يستحق تلك الرتبة الممنوحة له بين أشهر أمهات الكتب الأدبية، لأنّه في الواقع، أو حسب تقييمي الشخصي، ليس له في الأدب العربي قيمة كبيرة، فهو برأيي يأتي في آخر مرتبة بعد "الأمالي" و"الكامل" اللذين قلتُ سابقاً بأنهما أقلّ قيمة من "مجالس ثعلب" رغم أنهما أوسع منه شهرةً. وبالتأكيد لا يرقى هذا الكتاب إلى مستوى "العقد الفريد" بأيّ حال. والخلاصة؛ أنّ هذا الكتاب مفيد جداً لرجال الدين وخطباء المساجد وكل من يرغبون في الاستزادة من الثقافة الدينية وتهذيب خطابهم الديني، وكذلك مفيد إلى حد ما لعشاق الأدب، لكنه ليس كتاباً أساسياً في الأدب ولا يمثّل جوهر الأدب العربي أحسن تمثيل.

سعيد بودبوز


ما قيمة كتاب "البصائر والذخائر" في الأدب العربي؟

 

 

يُنسب هذا الكتاب إلى أبي حيان التوحيدي، ولكن عندي بعض الشكوك في بعض فصوله كما سأبين لاحقا. هذا الكتاب أقلّ شهرة في الأدب العربي من أمهات الكتب المعروفة، وإن كان لأبي حيان التوحيدي شهرة واسعة وحضور قوي في الأدب العربي الكلاسيكي. الجزء الأوّل غامض، ومضطرب يتمحور حول المواعظ الديـ.ـنـ.ية بالدرجة الأولى، وليس له قيمة أدبية تقريبا. ولكن ليس هذا كل شيء، بل إنّ الأسلوب المستعمل في المقدمة والمتن لا يبدو لي أنه أسلوب التوحيدي، سواء من حيث الشكل (غير بديع)، أو من حيث المضمون (وعظي)، ومعروف عن رجال الـ.ديـ.ـن في الإسـ.ـلام أنهم يتميّزون بالضحالة في الكتابة الأدبية، ولعل خير دليل على ذلك أنهم عجزوا عن كتابة السيرة النـ.بـ.وية بأسلوب سردي معتبر حتى الآن، وقد كتبت عن هذا الموضوع سابقا فقلت بأنّه رغم عشرات السير النـ.بو..ية التي كتبها رجال الـ.ديـ.ن فإنّ مخرج ومنتج فيلم الرسالة لجأ إلى قصة كتبها كاتب إسكوتلاندي بمساعدة من أدباء مصريين، لاحظ (أدباء وليس فـ.قـ.هاء ولا كُتاب التراجم العرب...).

ورغم تصريحه بأنه سيأخذ في هذا الكتاب مما ورد في مجموعة كتب الأدباء الأسلاف أمثال كتاب "العيون" للدينوري، و"مجالس ثعلب" وكتاب "المنظوم والمنثور" لابن أبي طاهر، وكتاب "الأوراق" للصولي، وكتاب "الوزراء" لابن عبدوس، وكتاب "الحيوانات" لقدامة وغيرهم، فإنّ الذوق الأدبي الرفيع الذي أعرفه لدى التوحيدي لا يكاد يظهر منه شيء في انتقاء هذه المواد. ومع ذلك نجد فقرة في مقدمته تتسم بشيء من البداعة. المؤلف يكثر الاقتباس من أقوال الـ.رسـ.ول (ص) والصـ.حابة، شأنه في ذلك شأن ابن عبد البر في كتابه "بهجة المجالس..."، وأحيانا يقترب من أسلوب منصور الآبي في كتابه "نثر الدر"، لكن هذا الأخير- كما سبق لي أن كتبتُ- أنّه بعد الصفحة 300 من الجزء الأول، يترك المواعظ ويدخل في صلب الأدب العربي بشكل رائع، ويمضي على هذا النحو إلى آخر الكتاب. وطبعا لا يرقى إليه كتاب "البصائر والذخائر".

في الجزء الثاني من هذا الكتاب، نقرأ مقدمة هزيلة مشحونة بالوعظ، وبعدها يقرر المؤلف بأنّ هذا الجزء مخصص لبصائر القدماء، وأسرار الحكماء، ونوادر الملحاء، وخواطر البلغاء". ويعترف قائلا: "وقد صار إليك الأوّل على اضطرابٍ من تشتت أجناسه وفصوله". ثم يورد فقرة بديعة يسـ.تشـ.هد فيها بواصل بن عطاء (شيخ المعتزلة)، وقد شعرتُ كأنّ هذه الفقرة من تأليف الجاحظ، المولع بالمعتزلة وشيخهم واصل بن عطاء الذي يدافع عنه في كتابه "البيان والتبيين" وسيأتي وقت الحديث عنه، لكني أعرف أيضا بأنّ أسلوب التوحيدي قريب جدا من أسلوب الجاحظ، لأنه تلميذه، وهذا يعني أنّ هذه الفقرة قد تكون من تأليف التوحيدي فعلا. لكنه سرعان ما يستغرق في الوعظ الـ.ديـ.ني مستـ.شهدا بعـ.لي بن أبي طـ.الب وغيره، ثم بعد ذلك يتحسّن أسلوبه ويورد مجموعة من الملح البديعة شكلا وإن كانت ذات مضامين ديـ.نـ.ية. ويُحسب له أنه لا يكثر من العناعن والأسانيد كما يفعل ابن عبد البر في "بهجة المجالس..".

في الجزء الثالث تطالعنا مقدمة يصعب الجزم بأنها للتوحيدي، رغم بداعتها وجمالها. ويمضي في أسلوب بارد هزيل إلى الصفحة 82، حيث نستشعر ذوقا رفيعا في انتقائه المادة الأدبية، ويمضي على هذا النحو تقريبا إلى نهاية هذا الجزء. في الجزء الرابع، تطالعنا مقدمة وعظية المضمون، لكنها على شيء من البداعة في الشكل، ويمضي على هذا النحو إلى الصفحة 101، وهنا يفاجؤنا أسلوب أبي حيان التوحيدي الرائع الذي تعوّدنا عليه في الأجزاء الأولى من كتابه الشهير "الإمتاع والمؤانسة"، إنه أسلوب المناكفة الذي ورثه من الجاحظ على ما يبدو، وإن كانت هذه المناكفة عند الجاحظ أعنفَ وكثيرا ما تتحوّل إلى مسالخة، بل إلى سلخ مبين حيث يظهر الجاحظ جزّاراً أدبياً لا يمل ولا يكل من الفتك بخصومه.

ويكاد يتضح أسلوب التوحيدي هنا في قول المؤلف: " ولكن أين جسارة مثلي وإقدامه وتحكّكه واعتزامه؟ .."

ويضيف مناكفاً: "اعلم أنّ هزل بن معروف كان مغموراً بعلمه وأدبه، وكان محتملاً لشكله وظرفه.." إلى قوله: "وأسندت نفسي إلى عمّ بالعراق، ولو سلخني المغاربة سلخاً، ونفخوا في جلدي نفخاً، لكان أهون عليّ مما قد عاملني به.".

ثم يقول: "طال هذا الفصل وما أردت ذلك ولكن لتمزيق عرض اللئام حلاوة لا توجد في مدح الكرام". هذا هو التوحيدي عندما يعتريه مسّ من الجاحظ!.

بعد ذلك يتعاقب على الكتاب مد وجزر، وفي الصفحة 225 أشعر مرة أخرى كأنني أمام الجاحظ، حيث يشرح بعض الألفاظ فيقول: "أما البر فخلاف البحر، وهي بلاد لا حيطان فيها، ولا نعتقد أن البلد لا تكون إلا ما فيها حيطان.." الخ. ثم يختم هذا الجزء بمجموعة من الأمثال والمآثير الأدبية القصيرة. وقد ابتعد عن الاقتباس من رموز الـ.ديـ.ن، وعاد إلى منهج رواة الأدب العربي حيث صار يقتبس من الأصمعي والأحنف وابن المقفع وأمثالهم، ثم يذيّل هذا الجزء بموعظة ديـ.نـ.ية.

في الجزء الخامس كالعادة تطالعنا مقدمة ديـ.نـ.ية، لكنها بديعة يجوز أن تكون من تأليف التوحيدي، ثم يليها متن مشبوه كأنه من صنع الورّاقين، وكأنّي بهم أرادوا تديـ.ين وتوريع سيرة التوحيدي الذي كان متهما بالزنـ.دقة كما نقرأ عنه في بعض كتب التراجم، وهذا لا يمنع من دسّ بعض العسل الأدبي التوحيدي في مادة الـ.ديـ.ن الشمعية، ولا نقول شيئا آخر. يمضي المؤلف على هذا الأسلوب الوعظي البارد إلى حدود الصفحة 21، وهنا يظهر شيء من أسلوب التوحيدي، ومن الطبيعي أن يظهر اسم الأصمعي هنا بدل أسماء الصحـ.ابة أو التابعـ.ين المـ.تقـ.ين. يمضي على هذا النحو إلى حدّ التفحّش في الصفحة 33، وبهذا يشبه ما نقرؤه في "بهجة المجالس" من التأرجح بين التقوى التي تشارف التـ.طـ.رّف، والتمجّن الذي يشارف الانحـ.راف.

يتابع رواية الأطاريف الأدبية البديعة، إلى أن يتحدث عن الأحاجي في الصفحة 145حديثا بديعا ومفيدا جدا، ويمضي على هذا النحو إلى نهاية الكتاب، وبشكل يعاكس كتاب "الإمتاع والموانسة" من الناحية الجمالية، فلو سلّمنا بأنّ هذا الكتاب كله من تأليف التوحيدي، فالملحوظ أنّه يبدأ بأسلوب هزيل وينتهي بأسلوب بديع، بينما يبدأ الإمتاع والمؤانسة بأسلوب بديع وينتهي بأسلوب هزيل. والخلاصة أنّني أضع شخصيا هذا الكتاب في مرتبة دون "بهجة المجالس" بقليل، ويكاد يرقى إلى مستواه تماماً، ولكنه لا يرقى بأي حال إلى مستوى "الإمتاع والمؤانسة"، خاصة أجزائها الأولى.

.

سعيد بودبوز