الاثنين، 7 ديسمبر 2020

الرواية العربية وسلطة الماضي

 

سعيد بودبوز

 

عندما يقوم الروائي بسرد مجموعة أحداث، معلوم أنه لا يستهدف من القارئ تصديقها، وإنما يستهدف إحداث العبرة. ولصيغة الزمن المهيمن (الماضي) على البنية السردية حصة الأسد من إحداث هذا الأثر (العبرة). وبالتالي، فإنّ للماضي سلطة ما على ثقافة المتلقي التي تساهم الرواية في بنائها وتنميتها إن بشكل أو بآخر.  إن تكريس ربط هذا الأثر (إحداث العبرة) بزمن الماضي في الرواية، لاشك أنه يكرّس، إلى جانب ذلك، تعلّقاً جانبياً بالماضي، ويترسّب هذا التعلق في أعماق العقل الباطن، ليضرب ضربته بين حين وآخر في جدار الحاضر بشكل أو بآخر. إننا، بعبارة أخرى، نمنح الماضي في الرواية كافّة الوسائل لإحكام قبضته على وجدان المتلقي، ونمكّنه من المزايدة على الحاضر، سواء من حيث نشعر أو لا نشعر، فبتكريس صيغة الماضي يشعر المتلقي، أو يتلقّى دون أن يشعر، بأن المنبع الوحيد للحكمة والصواب والفضيلة والعلم والإبداع والاختراع هو الماضي، وبالتالي فليس عليه فعل أيّ شيء آخر باستثناء الحفر في هذا الماضي عن كنوز قد تكون وهمية، وذلك على حساب الحاضر المتروك للآخرين. لا جدال حول أن الرواية العربية تسير بقوة في اتجاه التقليد من حيث الصيغة الزمنية للفعل السردي، ولا تبدو مستعدة للثورة على صيغة الماضي إلا فيما ندر، أو في مقاطع محدودة من هذا الذي وصفناه بـ "ماندر"، حيث نجد هذا النوع من الروايات مشغولاً بمصارعة الماضي على عدة جبهات، كما في رواية "أوراق"(1)، والتي سنأخذ منها بعض الأمثلة عن هذا الصراع بعد قليل. ففي هذه الرواية، يبدو اعتماد السارد لصيغة الحاضر في سرد الأحداث المفترض أنها ماضية، وسيلةً من وسائل التمرّد على سلطة الماضي في الرواية العربية.  

تتضمّن الرواية المذكورة أقصوصة تحت عنوان "الكهف"، حيث يحاصر العدوُّ مجموعةً من أفراد القبيلة بمن فيهم إمام المسجد وشيخ القبيلة، وتدور بينهم عدة حوارات نأخذ منها مقطعاً حيث يتحاور الفتى ابن شيخ القبيلة مع الإمام، فيقول هذا الأخير:"أتمنى على الله بوجه نبيه الأمين وأعمال عباده الصالحين أن يكون قد كتب أن لا أخرج حياً من هذا الكهف" !.

فإلى هذه الدرجة تذهب حماسة الإيمان بالإمام !. ويقول السارد عقب ذلك: "يبكي الفتى ضياع الهمّة ويبكي الإمام ضياع الإيمان. يقود الشرذمة المحاصرة شيخ القبيلة/ يظهر من حين إلى حين على الخشبة متبوعاً بغلامه وبالفرسان. تنبئ تصرفاته وأقواله أنه لا يرى فرقاً بين الحرب التي يقودها اليوم والحروب العديدة التي خاضها من قبل. يعتقد أن هذه قبيلة جاءت من بعيد لتغزو الوطن فعليه أن يدافعها بكل قواه/ يسأل غلامه عن عوائد الغزاة ويقول: هل يقبل رئيسهم المبارزة؟ يتفق الفتى وأبوه أول الأمر في حرصهما على مغادرة الكهف بأي وسيلة كانت"(2).

ففي هذا المقطع المختصر، نجد عشرة أفعال على صيغة المضارع، وهي: (يبكي، ويبكي، يقود، يظهر، تنبئ، لا يرى، يعتقد، يسأل، يقول، يتّفق). وطبعاً الرواية تتضمّن الكثير من مثل هذه الحالات، ولكنا اكتفينا بهذا المقطع كمثال. إن السارد (أو المؤلف) قد تصرّف بذكاء، وحسّ إبداعي عالٍ، وخبرة عميقة في علاقة النص الروائي بالعقل الجماعي الباطن إن جاز التعبير. إنه يرفض موقف الإمام القائم على التواكل، والداعي إلى اليأس والاستسلام لإفناء الذات وضياع الهمّة في نفوس الآخرين. لذلك يردّ عليه بالتي هي أنسب، وعلى أكثر من جبهة؛ يرد عليه من خلال موقف وتلميح وتصريح الفتى على مستوى مضمون النص، ويردّ عليه أيضاً من خلال صيغة الحاضر على مستوى الشكل، وهو الشيء الذي له تأثير على المدى البعيد والعميق. إنه ببساطة يصارع فيه الماضي بالمضارع. 

إن الإمام الذي ينتمي-بشكل أو بآخر-إلى القسم المحبوك بصيغة الماضي في الرواية، إنما يعيش بين مجموعة من جثث الأفعال، وبالتالي، فقد أبدى الساردُ أضعفَ إيمانه في إحياء هذه الأفعال،  حيث اعتمد صيغة المضارع بالموازاة مع  ردّ الفتى الضمني على الإمام. فحين يقول السارد "يبكي الفتى"، فإنما يريد أن يُشعرنا بأنّ هذا الفعل (يبكي) عابر للماضي، ومازال قضيةً ساخنة في الحاضر، وبالتالي فهو يحرّض فينا تفاعلاً أكثر حميميةً مع النص، ويُشعرنا وكأننا يمكن أن نشارك عن قرب في مجرى الأحداث المسرود عنها، وذلك من خلال تكسير الحاجز الزمني الفاصل بين الماضي والحاضر. 

فبضل "صيغة المضارع"، التي اعتمدها السارد لمكافحة صيغة الماضي في العمق، كما استخدم "همّة الفتى" لمكافحة "استسلام الإمام"، يشعر المتلقي وكأنه يشاهد ما يجري، أكثر مما قد يشعر بأنه يسمع بحكاية ما جرى. وفي قول السارد مثلاً: "يقود الشرذمة المحاصرة شيخ القبيلة"، يشعر المتلقي وكأن هذا النمط من القيادة لا نهاية له، كأنه مرتبط بقضية قد تكون مرشّحة للخلود إذا لم يحدث شيء (في  الحاضر) من أجل تغييرها أو تطويرها نحو الأفضل. وهذا الشيء الذي يُفترض أن يحدث في الحاضر، يشعر المتلقي وكأنه ليس من المستحيل أن يشارك فيه. 

إن السارد الذي اعتمد صيغة المضارع في المقطع السابق، يقرع بابنا ليقول لنا بأن هذه الأحداث عابرة للأزمان، كفى من دفنها حيةً في صيغة الماضي لتوهمونا بأنها انتهت، وبالتالي، فإن ربط هذه الأحداث والشخوص بالماضي لا يزيد من قوّة العبرة التي يمكن أن تؤخذ منها، وإذا كان ثمة من حكمة في نسج هذه أو تلك القصة، فإن هذه الحكمة لم تعد مرتبطة ارتباطاً عضوياً بالماضي، بل يمكن للإنسان الحيّ ثقافةً وعقلاً وفكراً، أن يستشفها من قراءة الحاضر أو استقرائه، أما الروائي تحديداً، فلم يعد ثمة شيء يجبره، أو يدفعه إلى مواراة إبداعه خلف مقولة (يحكى أن) أو (كان يا ما كان)، لم يعد مضطراً لإخفاء فعل "الخلق" في فعل "الحكي"، فلقد آن الآوان ليعلن بأنه خالق للنص، وليس مجرد ناقل مبدع أو ذكي لأحداث مازال الحياء يمنعها أن تتبرأ من الماضي. 

وما دام الروائي خالقاً لشخوص وأحداث نصه، فلماذا لا يتبنّى-فضلاً عن صيغة الماضي التقليدية- صيغةً أكثر جرأةً ليؤسس بها نوعاً من الاستشراف الفني، أو ما قد نسميه بـ "الرواية الاستشرافية"؟. وهي أن ينسج روايته باعتماد صيغة المضارع، فإن أوّل ما قد ينقشه مقطع روائي كهذا (يبكي الفتى ضياع الهمّة ويبكي الإمام ضياع الإيمان) في نفس المتلقي، هو أن ثمّة مجموعة من الشروط والظروف وأصناف من البشر إذا اجتمعوا، فإنّ نتيجة اجتماعهم معروفة، وهي كما جاء في المقطع، أي بئس المصير.  

ــــــــــ

 (1) د.عبد الله العروي: أوراق-سيرة إدريس الذهنية، ص202 الطبعة السادسة 2004، المركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع-الدار البيضاء-المغرب. 

(2) المرجع السابق: ص202-203


*** 


الأحد، 6 ديسمبر 2020

البعد الجمالي بين الأنا والآخر


   سعيد بودبوز


كثيرةٌ هي الذكريات الأليمة التي تتحوّل مع مرور السنين إلى ذكريات سعيدة، وتسحب صاحبها بحبل الحنين إلى الماضي بلا شروط. فعلى سبيل المثال؛ قد يحدث أن تقضي فترةً في قرية ما، وأنت فقير، أو ضعيف، أو مريض، لا سبيل للسعادة إلى قلبك. ولكن بعد مرور ما يكفي من الزمن، تتغيّر فيه أحوالك نحو الأفضل، وتصبح بعيداً عن تلك القرية وما عانيت فيها، قد يمتطيك الحنين مجدّداً إلى تلك الأيام، وتتمنى لو أمكنك أن تعود إليها كما يمكنك أن تعود إلى تلك القرية. وهذا يعني ببساطة أنّ ماضيك الحامض أو العافص تزبّب أخيراً وصار حلوَ الطعم كالعسل، شأنه شأن الزبيب والتمر والتين المجفّف. ذلك لأنّ من وظيفة الزمان "التطهير". فالمجرم الذي يحكم عليه القاضي بعشرين سنة سجناً، يصبح بريئاً يستحق الإفراج بعد أن يقضي تلك المدة الزمنية داخل السجن. 

وقد يصحّ الافتراض بأنّ المسافة الزمنية التي تفصل بين الماضي (المأساوي) والحاضر (نهاية المأساة/العقوبة)، في مثل هذه الحالات، إنما تساوي المسافة الوجدانية الفاصلة بين الشخصيات الممثلة في رواية أو فيلم أو على خشبة المسرح، وبين المُشاهد أو القارئ. أي كما تستمتع بالمآسي التي تشاهدها في فيلم سينمائي أو تلفزيوني، أو تقرؤها في رواية، كذلك يمكن أن تستمتع في حاضرك حتى ببعض المآسي التي عشتها أنت في ماضيك. وهنا يطفو البعد الجمالي على النفس، حيث أنّ كل شيء في هذه الطبيعة له بُعد جمالي، ولذلك فالمآسي نسبية لا يمكن الجزم بأنها مآسٍ مطلقة. عادةً يعتقد الإنسان بأنه لا يستطيع أن يضحك وهو ينظر إلى قوم يذبحون إنساناً. ولكن في الواقع ثمة زاوية جمالية aesthetic لو نظر منها إلى هذا المشهد، لربما أضحكه، أو على الأقل، قد لا يحرّك فيه مشاعر الاستنكار. 

فلعل كلّ ما يجعلنا نشعر بالحزن والرعب والقرف، هو أننا ننظر إلى المشهد المأساوي نظرةً ذاتية. فكلما نظرنا إليه نظرة موضوعية (أي كلما فصلناه وجدانياً عن ذواتنا)، اقتربنا من بعده الجمالي، ولهذا كثيراً ما ترى الإنسان يبكي بغزارة، ثم فجأةً يختم بكاءه بالضحك. وكثيراً ما تراه يضحك من سوء حظه دون أن يبكي طبقاً للمأثور القائل "من الهمّ ما يضحك"، لأنّ الإنسان، في هذه الحالة، إنما يفقد القدرة على الإحساس الذاتي، فيحسّ بأنّ ما يجري له إنما يجري لشخص آخر، ولعلّ هذا يحدث-بشكل أكثر جلاءً- كلما كانت المصيبة أو الضربة أو الورطة أكبر مما يحتمل الإنسان. ففي حادثة سير مثلاً يشعر الضحية بأنه "شخص آخر"، ولا يشعر بتاتاً بالألم حتى قبل أن يقع في غيبوبة. ولاحظ أنّ إحساس الضحية بأنه "شخصٌ آخر" يستدعي إلى أذهاننا ثنائية "الضحية" في فيلم مأساوي"، و"المُشاهد" الذي يستمتع بتلك الأحداث المأساوية. 

فلو أخذنا بعين الاعتبار-إضافةً إلى ما تقدّم ذكره- هدوءَ الكون إزاء ما يحدث في هذا العالم من الكوارث والمآسي والظلم والطغيان، وكيف أنّ الإنسان الذي يشعر ويفكر ويتخيّل سرعان ما يلفظ أنفاسه الأخيرة فيطويه النسيان وكأنّ شيئاً لم يكن..لو أخذنا هذه الأمور وغيرها بعين الاعتبار، فقد يبدو لنا أنّ أساس الكون جماليaesthetic، فكأنّ كلّ شخص، وكل شيء فيه "أنا" و"آخر" في نفس الوقت. كأنّ الألم ليس إلا حاجزاً مؤقّتاً ينظّم أحداث وشخوص المسرحية. وأنّ "الأنا" تختفي من على المسرح بالتزامن مع اختفاء "الألم" والإيذان باعتمار "الآخر" الذي قد يستمتع بهذا الألم !. وهذا ما يظهر جلياً في كل الأعمال الفنية، ففي الرواية الأدبية أو الفيلم-كما أشرنا سالفاً- لا أحد ينكر بأنه يستمتع بمآسي "الآخرين" ومصائبهم، بل إنّ من أهم ما يجعلنا نميّز بين قصص الأطفال وقصص الكبار هو أن قصص الأطفال تنتهي نهاية سعيدة، بينما تنتهي قصص الكبار عادةً نهاية مأساوية. 

إذن، كلما تألّم الآخرون في الرواية أو الفيلم، نشعر نحن بالمتعة، لماذا؟. لأنّ القناع الأخلاقي يسقط عنا في تلك الحالة، ونظهر على حقيقتنا بما ينسجم تماماً مع الطبيعة. فبسبب القناع الأخلاقي، نشعر بالحزن والرعب والقرف عندما نشاهد إنساناً يُذبح في الواقع، لأننا نحسّ بأن "الآخرين" لن يقبلوا استمتاعنا بتلك الجريمة الجادّة. أما حين نقرأ رواية أو نشاهد فيلماً، فإنما نظهر على حقيقتنا الطبيعية، ونشعر نحو الشخوص الخياليين تماماً كما نشعر نحو أنفسنا في الأحلام، أو أثناء تعرّضنا لحوادث دموية، أو مصائب لا نحتملها. 

إنّ ما يجعل المرءَ في الواقع يعطف ويبكي من أجل الآخر الذي يعاني ويتألّم، هو نفس الأمر الذي قد يجعله يبتعد عن نفسه في حالة ما لو تعرّض لحادث دموي على سبيل المثال. فكما وضع نفسه مكان الضحية سابقاً، كذلك قد يضع نفس الضحية (الآخر) مكانه لاحقاً إذا اقتضى أمر مأساوي لا قبل له بتحمّله. مازلت أذكر شخصاً سقط عن دراجته الهوائية قريباً من منزلنا في البلدة سنة 1994، فهرعنا إليه أملاً في إسعافه، فوجدناه فاقدا الوعي، لكنه سرعان ما صحا من غيبوبته وقال لأخي: "من أنا؟..وماذا حدث؟". بل أصرّ على معرفة هويته فقال: "أنا "فلان" أليس كذلك؟" أجابه أخي محاولاً طمأنته: "نعم، أنت "فلان" والحمد لله على سلامتك". وخلاصة هذه الورقة، أنّ البعد الجمالي للطبيعة يعني أننا جميعاً متفرّجون، مستمتعون بما يحدث لنا وللآخرين، وكلنا آخرون.

***


الاثنين، 23 نوفمبر 2020

نيتشه...بين الشعر والشجر

  سعيد بودبوز


من خلال هذه الدراسة سنجري تشريحاً معمَّقاً لقصيدة بعنوان "بين الجوارح" من إبداع الشاعر والفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، بغرض الكشف عن إحدى الآليات الذهنية لإنتاج النص الأدبي، مفترضين بأنّ ترتيب المفردات داخل النص يبدأ من نقطة مركزية محددة لابد أن تكون إحدى تلك المفردات إشارة إليها. وفي هذا النص الذي سنقوم بتشريحه، سنرى بأن المفردات خاضعة لنوع من التدرّج، وأنّ تواردها على ذهن الشاعر يقوم على تفكيك وتوسيع وتطييف تلك النقطة (المركزية) بالذات. وأثناء ذلك، سنلاحظ بأن هذا التدرج- الذي يستدعي إلى الذهن مساراً عمودياً- محكوم بطبيعة النقطة المركزية التي تحمل جينات الإظهار العمودي لبنية الخطاب.

إن هذه الدراسة لا تستهدف البحث في الإجابة على سؤال "كيف تكوَّنت ونمت وانتشرت المفردات في فضاء النص" فحسب، وإنما تستهدف، إلى جانب ذلك، الكشفَ عما يسمح بتقديم الإجابة على سؤال "لماذا تكوَّنت ونمت وانتشرت هذه المفردات"؟. ولعل هذا يقتضي التدرج من مستوى التحليل إلى مستوى التعليل. ونحن نفترض بأن العنوان، إذ يتضمن ذكر "الجوارح"، يستدرج المتلقي إلى إدراك عمودية الخطاب الذي يتأرجح فيه الشاعر بين العمق والارتفاع. ولذلك كان لابد من كائنات ذات أجنحة، مما يستدعي الحديث عن "النزول" أو "الصعود"، ووضع الشبكة الدلالية للأفعال التي تحتويها القصيدة رهن التمييز اللاشعوري بين "تأثير الذات في الذات"، و"تأثير الذات في الموضوع". ولقد افترضنا-بناءً على فحص دقيق للنص-بأن تأثير الذات في الذات يحدث نتيجة للانتشار الأفقي للنص، وأن تأثير الذات في الموضوع يحدث نتيجة لانتشاره العمودي.

إن القراءة التي يفترضها نص كهذا ينبغي أن تكون عبارة عن "نزول" من حيز عالِ إلى حيز عميق. وفي هذا ما يعني أن فعل القراءة يجب أن يكون نزولاً للبصر  نحو البصيرة؛ نزولاً من الرأس إلى القلب على سبيل التمثل الباطني لسيرورة النص الذي يسجل إحدى أهم التجارب الباطنية التي أسفرت عن ولادة زرادشت كواحد من أعظم العارفين بالذات أو المتطلعين إلى ذلك، حسب المنطق النتشوي طبعاً. ومن هنا ستكون قراءتنا لهذا النص شبيهة بالهبوط المفاجيء للطائرة، والذي لابد أن ينتهي إلى باطن الأرض وليس إلى سطحها كالمعتاد.

نأخذ المقطع الأول من القصيدة، حيث يقول الناصّ:

"من يرغب النزول هنا

سريعا تمتصه الأعماق

لكنك يا زرادشت

تحب الهاوية كما تحب الصنوبرة

بجذورها ترمي الصنوبرة

حيث الصخرة ذاتها

في الأعماق تنظر مرتجفة

تتردد الصنوبرة عند حافة الهاوية

حيث كل ما حولها يهم بالنزول

قرب لهفة الحصاة المتوحشة"(1).

إذا ذكَّرنا القارئ بعنوان القصيدة "بين الجوارح"، فقد يسهل عليه "النزول" معنا إلى عمق النص، حيث سيدرك بأن كملة "النزول"- التي وردت في البيت الأول- لها ارتباط عضوي بجو السماء المضمرة التي تعبر عنها الجوارح المُظهرة. وبناءً على ذلك، نرى أن قول الشاعر "من يرغب النزول هنا"، له وظيفتان؛ الأولى تتمثل في نشر الموضوع، والثانية تصب في تشكيل خلفية النص. إذن، لابد من التفريق بين المضمون والخلفية. فعلى مستوى المضمون، تحيل كلمة " النزول" على شخص يفترض أنه لايدرك عواقب الانجذاب (السقوط) إلى العمق الصوفي الذي بلغه زرادشت. وعلى مستوى خلفية النص، نرى أن كلمة "النزول" تحيل على المتلقي المفترض أن قراءته لهذه القصيدة تفترض نزولاً بسبب "الجوارح" التي جاءت في العنوان، وهذا ما نفعله نحن الآن بصحبة القارئ؛ فنحن إلى القاع نازلون.

إن "الجوارح" تستدعي الحديث عن الجو؛ عن السماء، وبالتالي، فهي تستدعي مساراً عمودياً قوامه الصعود والنزول. وبهذا نكون قد استوعبنا التعدد الدلالي الذي تبثه كلمة "النزول" في فضاء النص . زد على ذلك، أننا واثقون- بكل تواضع- من قدرتنا على الكشف بأن العنوان البنيوي/العضوي لهذا النص هو "الصنوبرة"، وليس "بين الجوارح" !

لقد جاء ذكر "الصنوبرة" في البيت (أو السطر) الرابع، أي بعد "النزول" الذي ورد في البيت الأول، أضف إليه حيز العنوان (قمة القصيدة والسماء)، فعلى مستوى خلفية النص، يمكننا اعتبار هذه الأبيات الأربعة-وأسبقية النزول فيها على الصنوبرة- تعبيراً عن الفضاء (الجو) الفاصل بين "الجوارح" و"الصنوبرة"، وبما أن هذه الأخيرة لم يتم تأجيل ذكرها مثلاً إلى آخر النص، فنحن نعتبر الأبيات الفاصلة بينها وبين النهاية إشارةً وتمثيلاً موازياً لوضعية الصنوبرة نفسها من حيث هي "شجرة". لماذا؟ لأنه لم يتم تشبيه زرادشت-على مستوى المضمون- بالسيمات البصرية للشجرة؛ أي اخضرارها وأغصانها، بل كان هناك إدخال لجذورها في عقد هذا التشبيه. ولكي نبين هذه المسألة الدقيقة بأقصى إيجاز وتبسيط، سنقسم النص إلى ثلاثة أقسام ؛نظراً لعلاقة العنوان بالشجرة، التي سنرى-كما أسلفنا- بأنها هي العنوان البنيوي والعضوي والباطني للنص:

 

خلفـية:     مضمون:

جوارح ← أغصان

صنوبرة← أرض

نهايــــة ← جـذور

 

إذن، هناك محاكاة بين المضمون والخلفية، وأنهما يتقاسمان بعض مفردات النص مثل "النزول"- الذي جاء ذكره في بداية النص- لأنه سيعبر عن ثلاثة روابط؛ فهو أولاً؛ الفعل الرابط عمودياً بين فضاء "الجوارح" و"الشجرة"، على مستوى المضمون، وثانياً؛ هو الفعل الرابط أفقياً بين حيز العنوان والمتن، على مستوى خلفية النص (وبياض الورق)، وثالثاً؛ هو الفعل الرابط باطنياً بين مضمون النص وخلفيته !. لاحظ أن "الجوارح" هي التي ستنجز فعل "النزول"، حيث يقول الناصّ:

"من يتجرأ على النزول ضيفا هنا؟

من يتجرأ على أن يكون ضيفك؟

طير جارح ربما،

تعلق في فرح

بجمّة شهيد رصين

في ضحكة تائهة

ضحكة الطير الجارح"(2).

ولكن، لنعد قليلاً إلى العنوان، ونحن نفترض السؤال التالي: من- أو ماذا- يفترض أن يكون "بين الجوراح"؟. الجواب؛ إنه زرادشت. إذن، فيبدو أن هناك خللاً في قراءتنا لابد من معالجته، إذ يُفترض- بالنسبة إلى منهجيتنا المتبعة في تحليل هذا النص-أن يأتي العنوان مثلاً على هذا النحو: "تحت الجوارح" وليس "بين الجوارح"، فما العمل؟. إنه لمن الطريف أننا-بعد قليل من التنقيب في أرض النص-ظهر لنا "ثعبان" وأكد لنا-بشكل مدهش-أن جملة "بين الجوارح" أكثر انسجاماً، سواء مع متن النص، أو مع منهجيتنا في تحليله !. وبعد قليل سيتبين للقارئ دور الثعبان في هذه "البينية" العجيبة، وهو الدور الذي أنقذ فرضيتنا، وأعفانا من إعادة النظر في إستراتيجيتنا الاستكشافية  Abduction (3) التي انطلقنا منها بعد جهد صغير بالمقارنة مع الجهد الأكبر الذي بذلناه في دراسة أعمال نيتشه بأكملها، ولقد ساعدنا ذلك كثيرا في تحليل هذه القصيدة.

والآن سنعود إلى المقطع الأول بشيء من الغوص في النص:

"من يرغب النزول هنا

سريعا تمتصه الأعماق

لكنك يازرادشت

تحب الهاوية كما تحب الصنوبرة".

فللأعماق جاذبية إذن، وإذا كان من السهل أن نعلل ذكر الشاعر لـ"الهاوية"، بعد أن قلنا بأن للخطاب مساراً عمودياً، فبقليل من التأمل ندرك أيضاً لماذا صرح بـ "الحب" المشترك بين زرادشت "والصنوبرة" تجاه الهاوية؛ لأن الصنوبرة أولاً؛ لها ارتفاع وعمق، فهي تمد أغصانها في جو السماء كما تمتد جذورها في عمق الأرض.

لقد أقدم زرادشت على خطورة "امتصاص الأعماق" بسبب حبه للهاوية، والذي سوف يكون بداية لتورطه في التشبُّه بالصنوبرة( + شجرة)، وهنا يظهر لنا الازدواج الدلالي للهاوية؛ إن الدلالة البسيطة تتمثل في الإحالة على العمق الصوفي (الذي يبتعد فيه الإنسان عن العالم بقدر ما يقترب من الذات)، والدلالة العميقة تتمثل في الإحالة على العمق الأسطوري للصنوبرة؛ أي من حيث هي "شجرة" تحيل على هاوية الخطيئة الأولى !.  ولكن زرادشت (أو الشاعر)- عكس آدم-سوف ينزل من أجل الخطيئة وليس نتيجة لاقترافها. فمنذ اللحظة التي أعلن فيها تشبه زرادشت بالشجرة، قرر أن يصرف تركيزه إلى الجذور (=الحياة الباطنية) بدل الأغصان (=الحياة الظاهرية)، وما ذلك إلا امتداد لمشروعه الفلسفي/الصوفي القائم على سحب الثقة من السماء وغرسها في الأرض. وهذا ما سوف يظهر في إلحاده ودهسه الزمان بعجلة العود الأبدي.

ففي هذا الأفق الأسطوري، يمكننا اعتبار أن فعل "الأكل" قد تم تذويبه-على سبيل الانزياح- في فعل "التشبيه"، أي تشبيه زرادشت بتلك الشجرة.

"بجذورها ترمي الصنوبرة

حيث الصخرة ذاتها،

في الأعماق تنظر مرتجفة

تتردد الصنوبرة عند حافة الهاوية" (4).

إن الشاعر، كما سيرى القارئ حين يقرأ القصيدة كاملة، لم يتحدث عن أغصان الشجرة بأي نبرة من النبرات البلاغية، لكنه تحدث عن جذورها، وهذه إشارة إلى أن زرادشت سوف يدخل في متاهة باطنية نحو الذات (العمق)، وأنه سوف يؤسس للقضاء على الفضائل وليس العمل على نشرها كغيره من المتصوفة التقليديين. كيف؟ لأن الأغصان تمثل البعد السماوي للتشجُّر المنطقي الحاكم لصيرورة النص. إذن، لقد استطعنا تعليل ذكر الشاعر للشجرة، وبقي أن نعلل إيراد "الصخرة"؛ إذا كانت الشجرة تستدعي فنياً إلى الذهن العمق والارتفاع، كما تستدعي أسطورياً الخطيئة والعقاب، فإن الصخرة تستدعي "الصلابة" التي تفترض الحاجة إلى التكسير، وهذه الصلابة سوف تنتقل إلى ذات زرادشت نفسه، مادام مشهد الشجرة تشبيهاً لمشهد متاهته الباطنية.

لقد وجدنا الجزء الأول من السبب وراء إيراد "الصخرة"، ذلك لأن امتداد جذور الشجرة في عمق الأرض كان بحاجة لما يبطؤه، فكانت الصخرة وسيلة لهذه التبطئة، ووسيلة لإبراز كفاح الشجرة أكثر من خلال ذلك.

"حيث كل ماحولها يهم بالنزول

قرب لهفة الحصاة المتوحشة

قرب السيول المتهورة

صبورة، متسامحة، صلبة، صموتة، متوحدة"(5).

هنا يترك المشبه به، وينتقل إلى المشبه، إذ يقول:

"أيها المتوحد !

من يتجرأ على النزول ضيفا هنا؟

من يتجرأ على ان يكون ضيفك؟"(6)

إن قوله "هنا" إشارة إلى وشوك زرادشت على الذوبان الكلي في الواحدية الأزلية، وهذا ما سيتحقق في كتاب "هكذا تكلم زرادشت"، فكأن عمق الذات- الذي بلغه من خلال "نزوله" الباطني، الذي يقابله النزول الظاهري للجوارح-ذاب في المكان، وأشار إليه بـ "هنا".

لقد أصبح زرادشت عميقاً، ولهذا كان لابد من كائنات مجنحة في النص، أي الجوارح، ولذلك، فبعد أن يتساءل "من يتجرأ على أن يكون ضيفك؟" يجيب نفسه قائلا:

طير جارح ربما،

تعلق في فرح

بجمّة شهيد رصين

في ضحكة تائهة

ضحكة الطير الجارح"(7).

ومن أجل إبراز مدى خطورة الخطوة الباطنية التي أقدم عليها زرادشت، كان على الكائن المجنح أن يكون جارحاً، لكي يلتهم جثته كثمن قدمه زرادشت لقاء نزوله إلى عمق الذات قبل  أن يستوفي الشروط الصوفية للإقدام على ذلك، ولكن:

"لمَ كل هذه الرصانة؟

في بشاعة يسخر: لابد من أجنحة إذ نعشق الهوَّة

لانفع من البقاء معلقاً كما تفعل"(8).

يبدو أن السخرية جزء من العقوبة؛ فكأن الطير يريد تمزيقه جزاءَ تعلقه بما يستدعي أجنحة. إن قوله "لابد من الأجنحة" يحيلنا على استقدام رمزي لتلك الجوارح، أي لكي تعبر عما يحتاجه زرادشت نفسه، فهو من جهة عشقه للهوة، يحتاج إلى أجنحة، ولذلك جاءت إليه الجوارح بشكل حلمي موغل في الرمزية. ولكن، من جهة أخرى، يحتاج للعمق في باطن الأرض (الذات)، وليس تحليقاً في السماء، إذن فهو بحاجة أيضا لما سوف يعبر عن التحرك في الأعماق، بيد أن هذا الشيء يجب أن يكون شبيهاً بجذور الشجرة، فهل يمكن، أيها القارئ، أن تخمن ما هو؟. يخيل إلي أنك عرفتَه، إنه الثعبان !.

ولكن هذا ليس كل شيء، فإذا كانت جذور الشجرة (الخطيئة) هي التي أوحت إلى الشاعر بصورة الثعبان، التي سرعان ما استدعت إلى ذهنه باقي أوجه الشبه بين الجذور والثعبان، فإن هذه الجذور أيضا سوف تظهر على شكل حبال، بل إن هذه الأخيرة كانت وسيطا بين الجذور والثعبان، لنتأمل قوله:

"ياعارفا ذاتك !..يامعذبا ذاتك !

لمَا ارتبطت بحبل حكمتك؟

لمَ انجذبتَ إلى فراديس الثعبان العجوز؟"

وهكذا، يمكن القول بأن جذور الصنوبرة هي التي أثمرت كلاً من الحبال والثعبان، لكن الانجذاب إلى الثعبان تحديداً قد يكون تعبيراً لاشعورياً عن تأنيب الضمير، والذي يعود بالشاعر إلى عقدة الخطيئة الأولى التي نعرف جميعاً علاقتها بالثعبان. إذن، فإن للصنوبرة (+ شجرة) علاقة مزدوجة بالثعبان؛ هناك علاقة أسطورية قوامها "الإغراء" بالأكل من شجرة المعرفة (أو الخلد)، وهناك علاقة بنيوية قوامها "التوليد الاستيحائي" للثعبان من "جذور" الشجرة، وهكذا يعبر كل من الحبل والثعبان رمزياً عن كل من الإغراء بالأكل (← التشبيه) والعقوبة عليه في مقام الاستنهاض الرمزي لأسطورة الخطيئة الأولى والعقوبة التي تلتها، بل وأكثر من ذلك، نستطيع الافتراض بأن "الصنوبرة" هي التي تقف وراء استدعاء كلمة "الصيد" أيضاً، لأن الصيد عمل من الأعمال التي تُمارس في الغابة.

"يا زرادشت !

يا أقبح من نمرود !

يامن تظل صياد آلهة !

ياشراك الفضائل كلها، ياسهم الشر !

والآن

مطارَداً من ذاتك،

ها أنت فريسة ذاتك، مبرِّحا بسهامك..."(9).

وبما أنها لم تكن مجرد صنوبرة (بل كانت رمزاً وتعبيراً لاشعورياً عن شجرة الخطيئة)، فلذلك لم يكن زرادشت يصطاد الحيوانات، بل كان يصطاد آلهة !. وبما أن تجربة الغوص الباطني (في أعماق الذات) قد كشفت له عن ألوهية متصلة (أي غير منفصلة)، فلذك أصاب ذاته بسهمه ولم يصب غيره، أي لقد أصاب نفسه من حيث هو واحد من أولائك الآلهة التي كان يصطادها، وهذا تعبير لاشعوري عن لوم الذات والقبول بعقوبتها.

"والآن

متوحدا مع ذاتك،

هاأنتَ

نافرا من حلمك وسط المرايا المئة" (10).

نحن نفترض بأن الذي استدعى "المرايا" إلى ذهن الشاعر هو قوله "مطارداً من ذاتك"، لأن ما كان يطارده في أولائك الآلهة أصبح كامناً في ذاته؛ لقد أوشك على التخلص من ألوهة مفارقة ووقع في معرفة ذاته التي تعني (بمعنى من المعاني) معرفة إله. وهذا ما لا يريد القبول به درءً لسهام اللوم التي يتلقاها من قوس الضمير، وهو قوس قزح الذي أسلفنا في دراسة سابقة بأنه يحجب حقيقة الدائرة (دائرة قزح).

"مخطئاً ذاتك

حائراً وسط الذكريات المئة

بكل الجراحات متعبا،

بكل المتجمدات مخمدا،

بحبالك مختنقا" (11).

إذا كانت الجذور هي المسؤولة عن تعميق الشجرة، فإن الحبال هي المسؤولة عن اختناق زرادشت، لأنه-رغم كل محاولاته- مازال لم يستطع أن يجمع بنجاح بين الغوص في العمق والتنفس عبر الأغصان. فكما أن الجذور هي التي تقود الشجرة نحو العمق، وكما يؤدي ذلك إلى ارتفاعها الشاهق في السماء (ولعل الارتفاع يرمز-في عقيدة نيتشه- إلى المعرفة الفلسفية)، فكذلك لم يظهر الحبل في النص من أجل الخنق فحسب، وإنما ظهر أيضا من أجل التعويض عن الأجنحة، وهذا التعويض نفهمه بعمق حين ننتبه إلى أن الجوارح-وإن أشرنا إلى أنها ترمز لحاجة زرادشت إلى أجنحة- قد ظهرت لتلتهم جثته. و ريثما تتوطد العلاقة بينه وبين الجوارح (في كتابه هكذا تكلم زرادشت)، فهو بحاجة حاليا إلى حبال كي يتعلق بها في تلك الهاوية، ولكن الضمير (الذي يعبر عن تردد زرادشت في الاستسلام الكلي للغوص في معرفة الذات) يجب أن يظهر على صورة "الاختناق" تماما كما سوف يظهر على صورة "اللذغ" أيضاً.

من السهل أن ندرك العلاقة البصرية بين الحبل والثعبان، ومع ذلك فإن الثعبان لايقف سيميولوجيا جنبا إلى جنب مع الحبل، وإنما يعبر عن روح الحبل نفسه !. إن الحبال هي الجذور التي كان على زرادشت أن يتعلق بها في الهاوية، ما دام لم يبلغ اقتناعه بالغوص مستوى رسوخ الشجرة في عمق الأرض، لكن بعد هذه المرحلة من التعلق، سوف يسقط في عمق الهاوية (الذات)، وفي هذه الأخيرة سوف لن يكون بحاجة إلى التعلق أو التحليق بقدر ما يحتاج الانسلال والتسلل في الأعماق، وهنا يتحول الحبل إلى ثعبان !؛ فإذا كانت للحبل وظيفة عمودية (التعلق)، فإن للثعبان وظيفة عمودية (الإغراء بالتعمق)، وإذا كان للحبل وظيفة العقوبة تتمثل في "الشنق"، فإن للثعبان أيضا وضيفة العقوية تتمثل في "اللذغ"،  وبالنظر إلى الترتيب التنازلي للمفردات داخل النص،  نحن نرى أنه كان على الحبل أن يستيقظ، وقد جاءت يقظته في شكل ثعبان ! وهكذا نقول بأن "الشنق" تحول عمودياً إلى "لذغ"، والموت طبعا واحد، لكنه لن يكون موتاً لزرادشت كله، بل سيكون اختفاءً لأغصان الصنوبرة (الخطيئة) فقط، لأن زرادشت منذ الآن سوف يعيش حياة الشياطين في أعماق العالم السفلي. فبعد ان تلقى إغراءً وعقوبةً، سوف يتحول-هو نفسه-إلى إغراء وعقوبة؛ أي  سوف يتحول إلى ثعبان.

"ياعارفا ذاتك !..يامعذبا ذاتك !

لمَا ارتبطت بحبل حكمتك؟

لمَ انجذبتَ إلى فراديس الثعبان العجوز؟

لمَ انسحبتَ داخل ذاتك؟

ها أنك الآن عليل

سم الثعبان عليلاً صيرك"(12).

لاحظ أن ارتباطه بالحبل يحاكي ارتباط الشجرة بالجذور. وبعد هذه المرحلة (التي كان فيها بحاجة إلى ارتباط عمودي فقط) يسقط زرادشت نهائيا في شكل استسلام كامل لمعرفة الذات. إذن، لم تكن فراديس الثعبان إلا تعبيرا عن حبال الإغراء التي تمدها الذات (الشيطانية/الثعبانية) لزرادشت (الواقف على سطح الأرض) لكي تسحبه إلى عمقها (الذات) على طريقة الصنوبرة. وهنا يبدأ قوس الضمير إطلاق سهامه، ولن يفرغ كنانة التأنيب حتى يدخل زرادشت في تجربة قلب جميع القيم.

"ها أنك الآن سجين

أتعس الأقدار حظك

محنيا تشقى

في قاع منجمك المحفور في ذاتك، ها أنك

بالفأس تغير على ذاتك

أيها المتصلب، أيها الأخرق !

جثة صرتَ مثقلة بمائة حمل جمعتها

أنتَ العارف ذاتك

أنت الحكيم زرادشت !

فتشت عن الحمل الأثقل

غير ذاتك ما وجدتَ"(13).

وها نحن نصل إلى ما يعلل ظهور "الصخرة" في هذه القصيدة، أي أنها جاءت لتمد زرادشت بما يحتاج من الصلابة لكي يعبر بها الشاعر عن الجهد الذي بذله في "الحفر" المعرفي عن الذات. وإذا كان التحليق في السماء يتطلب أجنحة، فإن التعمق في الأرض يتطلب آلة للحفر، ولهذا كان على ذات زرادشت أن تبدو صلبة، زد على ذلك أن الشجرة (الصنوبرة) هي التي استدعت الفأس إلى الذهن، وذلك لعلاقة الفأس بالغابة (الحطب) أيضا كما علاقة الصيد بها.

عندما قرر أن يصطاد الآلهة، و اصطاد نفسه، تفاجأ بأنه كان عليه أن يحمل جثته (الثقيلة) بدل أن يضفر بأحد الآلهة المفارقة. لكن "الثقل" ظهر في النص نتيجة للتصلب الذي ظهر بدوره نتيجة للصخرة التي كان على جذور الشجرة (المشبه به) أن تزعزها في طريقها نحو أعماق الأرض.

"فما عدتَ تعرف منك خلاصك..

مترصدا في مكمنك

بتَّ لا تعرف الوقوف منتصبا

مغشى تنتهي في قبرك، يا فكراً تشوَّه"(14).

إن قوله "فكراً تشوَّه" تعبير صريح عن فشل زرادشت- لحد الآن-في الأكل(التشبُّه) الجيد من شجرة المعرفة/الخلد/الخطيئة، ذلك لأن تعمق الجذور في باطن الأرض لا يمنع الأغصان من الامتداد شامخةً في السماء، فتبدو هذه العملية التي أقدم عليها زرادشت (معرفة الذات/الأكل/التشبه) ناقصة، وقد ظهر هذا النقص شبيها بعدم خروج الشجرة من قشرة الأرض، رغم امتداد جذورها في عمق الأرض، فما الذي ينقص زرادشت بالضبط؟

الجواب: تنقصه القدرة على إيقاف الضمير الذي يصطاده بسهام القيم، وحالما ينجح في القضاء على جميع القيم، سيخرج من الأرض ويمتد بقامته شامخاً عاليا، لكن- كما قوس قزح- لن يكون خروج زرادشت من الأرض عادياً، ولن يكون زرادشت بعد ذلك عادياً، ولن تكون صورته الفيزيائية إلا بمثابة قوس قزح، وبهذا القوس ذاته سوف يطارد جميع القيم التي تسيطر على مريديه، ودون أن ننسى (كما قلت أكثر من مرة) بأن حقيقة قوس قزح هي "دائرة قزح"، وهذه الدائرة شبيهة بالشجرة إلى حد ما؛ فكما أن الجذور لا تظهر للعين بسبب اختفائها تحت الأرض، كذلك لا يظهر القوس السفلي لقوس (أو دائرة) قزح عادة لأسباب مشابهة.

"إلى زمن قريب

كنتَ مزهواً بذاتك

على سواري عزتك

كنتَ منتصباً"(15).

لكن هذا الانتصاب كان عن جهل؛ إنه جزء من رحمة الجهل، وإن بدا الآن حالة أفضل بالمقارنة مع هذا البرزخ الذي وقع فيه زرادشت قبل أن يحقق العبور الكامل إلى المعرفة المطلقة لحقيقة الذات. لاحظ أن قول الشاعر "على سواري عزتك" يمكن اعتباره موازياً لأغصان الشجرة، وذلك لأن التجربة "الباطنية"، التي-ولحد هذه القصيدة- لا يُحسد عليها زرادشت، تقوم على التشبُّه بجذور الصنوبرة. ولقد رأينا بأن تركيز الشاعر قد انصرف إلى "الجذور" دون ذكر شيء عن الأغصان. ولكن، بما أن الأغصان لا قيمة لها بدون جذور، ولن يكون لها إلا وجود زائف (كأن تكون مرسومة مثلاً)، فهذا يعني-وفقاً لمبدأ تشبُّه زرادشت بالصنوبرة-أن الشاعر كان يريد عكس ما صرح به حين قال:

" إلى زمن قريب

كنتَ مزهواً بذاتك

إلى زمن قريب

كنتَ وحيداً بلا آلهة

متوحداً مع الشيطان كنتَ

مع الأمير القرمزي، أمير كل المغالات.

والآن

مقهوراً

بين عدمين

أمسيتَ سؤالاً"(16).

لأنه يعرف جيداً بأن المراد هو تمكُّن زرادشت من المرور بهذه التجربة في معرفة الذات، والتي سوف تكون-بلاشك-أفضل من الزهو المزيف بالذات. أما السؤال، فهو يحتاج إلى جواب، والجواب سوف يأتي على هيئة زرادشت مابعد تجربة البرزخ المعرفي (وما بعد هذه القصيدة). من المعلوم أننا نطلق "الاستفهام"، أو "الاستعلام" أحيانا، على "السؤال". حين نطرح سؤالاً، فإنما نتطلع إلى "معرفة" ما، وحين يُسمَّى ويمسي زرادشت سؤالاً، فإنما يُفترض به أن يُصبح معرفةً. لكنه لن يصبح معرفةً في هذه القصيدة، ولذلك خطر على ذهن الشاعر أن يقول بعيد ذلك مباشرة:

"لغزاً متعباً أمسيتَ، لغزاً للجوارح

ستنجح الجوارح في تقطيعك، فهي إلى ذلك ظامئة

لقد بدأتْ حواليك ترفرف

حواليك، أيها المشنوق ! تنثر ألغازها.

يازرادشت !

ياعارفا ذاتك !..يامعذبا ذاتك !"(17).

لو كانت هناك إمكانية لأن يصبح زرادشت جواباً (معرفةً موفقة بالذات)، لن يكون ثمة داع لذكر "اللغز" في هذه القصيدة. وبما أن العكس هو ماحصل، فإن الجوارح نزلت من أجل تفكيك "اللغز" إذن، ألم يكن زرادشت بحاجة إلى أجنحة؟. بلى، كان بحاجة إليها، لأن التحليق يرمز إلى المعرفة الحقة، وما دام الأمر كذلك، فهو يعني أن الجوارح أقدر من زرادشت على معرفة (التحليق في هاوية) الذات. ولهذا كان انقضاضها على جثته تفكيكاً موفقاً لما يرمز إليه جهله من المعرفة الحقة. وسنرى بشكل مدهش-ونحن نتابع دراسة أعمال نيتشه-بأن الجوارح ستكف عن معاداته حالما يتمكن من معرفة ذاته حق المعرفة التي يعبر في هذه القصيدة عن التطلع إليها، بل إن الجوارح سوف تصبح صديقة له (النسر مثلا سيصبح صديقا حميما لزرادشت).

نحن نفترض بأن فكرة القصيدة انطلقت من الشجرة (الصنوبرة)، ولم تكن "الجوارح" إلا تعبيراً عن تحليق العنوان حول أغصان هذه الشجرة (فوق النص). إنها شجرة المعرفة والنص في نفس الوقت. ولأن الشجرة جامعة للباطن والظاهر (= الجذور والأغصان) فكذلك هي جامعة بين الأكل والتشبيه، وجامعة بين الخطيئة والعقوبة، وجامعة بين عمق النص (معرفة الذات) وسطح الأرض (الانخداع بالظهور).

إذا كانت الشجرة تمد أغصانها حقيقةً في السماء، على المستوى المرجعي، فإنها تمد الغابة إيحاءً في ذهن الشاعر، على المستوى الشعري. وهكذا نجد هناك إمكانية لافتراض علاقة بين "الجذور" و"الغابة". وكما اكتفى الشاعر بذكر "الجذور" دون الأغصان، فكذلك اكتفى بذكر أحداث غابوية دون ذكر "الغابة"، وهنا نفترض علاقة سفلية بين "الأحداث الغابوية" و"جذور" الشجرة. ويمكن أن نرسم حقل المفردات الدالة على الغابة كما يلي:

"متوحشة/ مطارد/ سهام/ فريسة/ شراك/ صيد/ ثعبان".

إذا كانت هذه العناصر المُظهرة توازي أغصان الشجرة المضمرة، فإن الغابة (المُضمرة) تناظر جذور الشجرة المظهرة. ومن جهة أخرى، نلاحظ أن إضمار الأغصان يوازي إظهار السواري !. إذا جاز لنا اعتبار "الغابة" مجموعة من الأشجار تكاثرت بعد أن كانت "شجرة واحدة"، فيجوز لنا كذلك اعتبار أن "ذكر الصنوبرة" في النص هو الذي تكاثر (وتحول إلى) المفردات الغابوية المذكورة سالفا. ولكي نبسط إلى أبعد الحدود هذه المسألة، نقول:

إن مفردة "صيد" تساوي "غصن"! وتساوي "شجرة" من حيث الافتراض بأن "الصنوبرة" هي الأم، و"صيد/فريسة/سهام/شراك/مطارد/فريسة" تساوي مجموع الأشجار المفترض تكاثرها من الأم على الصعيد المرجعي. إذن، يجوز لنا أن نرسم التثلث البنائي والدلالي على النحو التالي:

"صيد/غصن/شجرة"

لاحظ أننا لم نقل "صنوبرة"، بل قلنا "شجرة" إشارة إلى أن الأولى هي التي أنتجت الثانية (أوحت بالغابة في ذهن الشاعر). وإذا كانت كلمة "صيد" تعبر عن انتشار الفعل في مسار أفقي (أي أنه يتم في فضاء غابوي أوحت به الصنوبرة)، فلذلك لم يتمكن زرادشت من إصابة الفريسة، وإنما أصاب نفسه ! إن استنطاقنا لروح النص الثاوية في أعماق هذه التشكيلة من المفردات، يقول بأن مسار الأحداث المؤثرة في هذا النص يجب أن يكون عموديا، ولذلك تمكنت الجوارح من تقطيع زرادشت (ولو على سبيل البلاغة والتعبير الرمزي)، وكذلك لذغه الثعبان، لأن الجوارح "نزلت" من السماء على زرادشت، وهذا الأخير "نزل" إلى عمق الأرض (والذات).

بعبارة أخرى: نحن نفترض أنه لو كان العنوان ذا دلالة أفقية لربما تمكن زرادشت من إصابة فريسة موضوعية (آلهة) بدل أن يصيب نفسه، لأن التشكيلة التي كان سيأخذها النص تحت عنوان مختلف (أفقي) سوف تنعكس على المضمون والخلفية ورسم الخارطة الدلالية. لنعد إلى المقطع الأول حيث البيتين التاليين؛

"من يرغب النزول هنا

سريعا تمتصه الأعماق"

فمن يرغب النزول لا يمتص نفسه، وإنما تمتصه الأعماق، وهكذا يجب أن يرتبط التأثير (العابر للذات) بالمسار العمودي الذي تم الإعلان عنه من خلال جملة العنوان "بين الجوارح"، أو "بين جو السماء وباطن الأرض/بين الحياة التقليدية والحياة الباطنية/بين التجربة الفلسفية والتجربة الصوفية". ويمكن تصنيف المفردات الدالة على المسار العمودي كالتالي:

"نزول/متعلقا/هاوية/أعماق/منجم/طير؛ جارح".

إن الثعبان ليس له وظيفة رمزية واحدة تتمثل في الإغراء بالأكل من شجرة الخطيئة (التي أوحت بها الصنوبرة) فحسب؛ بل إن له وظيفة أخرى، إلى جانب ذلك، تتمثل في الجمع بين المسار الأفقي (الغابة) والمسار العمودي (النزول في حفرة الذات/الأرض).

لاحظ أنه قد لعب دور الإغراء والعقوبة في نفس الوقت، ولاحظ أن هذه العملية تشبه عملية "الصيد" التي قام بها زرادشت، حيث اصطاد نفسه؛ فكأن الثعبان الذي أغراه بفراديسه (الأكل من شجرة الخلد/المعرفة) قد انقلب على نفسه حيث عاقبه بالسم وفقا لإحدى علامات النفاق (إذا وعد أخلف)، وهذا شبيه باصطياد زرادشت لنفسه؛ فكأن زرادشت- الذي كان يصطاد الآلهة- قد انقلب على ذاته حينما أصابها بسهمه ! أليس كذلك؟

ولكن ما هو السبب؟..لعلنا لو دققنا في أعماق النص، سنجد بأن السبب يكمن في الصدام بين المسار الأفقي والعمودي للنص؛ فلو ظهر الثعبان مثلا في النص نتيجة لإيحاء أفقي، لانعكس ذلك في اكتفائه بوظيفة واحدة؛ وهي "الإغراء"، لكن بما أنه أوكلت إليه وظيفتان؛ الجمع بين الغابة (التي تم استيحاؤها من الصنوبرة في مسار أفقي) وعمق الأرض (حفرة/منجم/نزول/انجذاب) فلذلك انلقب على نفسه (انقلب السهم على الصياد)، ولعل القارئ قد قارن بين هذا الاستنتاج وما قلناه سابقا عن زرادشت الذي أصطاد ذاته؛ أي أن ذلك يعود لمحاولته التأثير من خلال مسار أفقي.

وقس على ذلك في شأن الحبل، فهذا الأخير أيضا له وظيفتان؛ الأولى تتمثل في أنه وسيلة للتعلق (ريثما يصبح زرادشت مجنحاً بالمعرفة الحقة)، والثانية تتمثل في أنه وسيلة للشنق، ونحن نعلل هذا الأزدواج- القائم على التضاد والصدام بين الوظيفتين- بأن الحبل قد ظهر في النص بإيحاء من الثعبان أو العكس كما أسلفنا:

حـبل← تعـلق≠ شنق

ثعبان← إغراء ≠ لذغ

وهكذا يكون الشنق عقوبة على التعلق، واللذغ عقوبة على الإغراء. لنلقي نظرة على المقطع الذي اجتمع فيه الحبل بالثعبان، إذ يقول الناصّ:

"ها أنتَ

نافرا من حلمك وسط المرايا المئة.

مخطئاً ذاتك

حائراً وسط الذكريات المئة

بكل الجراحات متعبا،

بكل المتجمدات مخمدا،

بحبالك مختنقا،

ياعارفا ذاتك !..يامعذبا ذاتك !

لمَا ارتبطت بحبل حكمتك؟

لمَ انجذبتَ إلى فراديس الثعبان العجوز؟"(18).

وكامتداد لعمودية المسار النصي، نلاحظ ونصنف المفردات التي تصف الأوضاع الفيزيائية للشخصية الشعرية كالتالي: منتصب/ محني. فالمفردة الأولى تختزل ما أشار إليه الشاعر بقوله:

" فتشت عن الحمل الأثقل

غير ذاتك ما وجدتَ

فما عدتَ تعرف منك خلاصك..

مترصدا في مكمنك

بتَّ لا تعرف الوقوف منتصبا

مغشى تنتهي في قبرك، يا فكراً تشوَّه.

إلى زمن قريب

كنتَ مزهواً بذاتك

على سواري عزتك

كنتَ منتصباً"(19).

والمفردة الثانية تختزل ما عبر عنه بقوله:

لمَ انسحبتَ داخل ذاتك؟

ها أنك الآن عليل

سم الثعبان عليلاً صيرك.

ها أنك الآن سجين

أتعس الأقدار حظك

محنيا تشقى

في قاع منجمك المحفور في ذاتك"

وإذا سلمنا بأن الثعبان ظهر على سطح وعي الشاعر بإيحاء من  الحبل، وأن هذا الأخير أوحت به جذور الصنوبرة، فيمكن القول أنه ظهر أيضا بإيحاء من الطير الجارح الذي نقر نقرته في ذهن الشاعر بالتحديد عندما ذكر "التعلق"، لنلقي نظرة-مرة أخرى- على المقطع التالي:

من يتجرأ على ان يكون ضيفك؟

طير جارح ربما،

تعلق في فرح

بجمّة شهيد رصين

في ضحكة تائهة

ضحكة الطير الجارح.

لمَ كل هذه الرصانة؟

في بشاعة يسخر: لابد من أجنحة إذ نعشق الهوَّة

لانفع من البقاء معلقاً كما تفعل"(20).

وهكذا جاء فعل "التعلق" و"الجذور" بالحبل إلى النص، وإن الدلالة العميقة  لذلك تتمثل في أن النزول يجب أن يكون أصلاً لجميع الأفعال التي تحتويها القصيدة، ذلك لأن "الطير الجارح" نزل من جو السماء قبل أن "يتعلق بجمة الشهيد الرصين".

نزول←تعلق←شنق.

لعل القارئ لم ينسَ حين أشرنا سالفا إلى ما يمكن لكلمة "بين" الواردة في العنوان أن تثيره من الخلل في فرضيتنا القائمة على التوجه العمودي للنص،  حيث زعمنا أننا وجدنا مخرجاً وقلنا: "بعد قليل من التنقيب في أرض النص-ظهر لنا "ثعبان" وأكد لنا-بشكل مدهش-أن جملة "بين الجوارح" أكثر انسجاماً، سواء مع متن النص، أو مع منهجيتنا في تحليله". ولقد آن الآوان لنوضح هذه المسألة، ففي هذا النص، الذي نعتبره تعبيرا عن مرحلة الإعداد الفلسفي لتجربة التخلص من جميع القيم، يظهر زرادشت بين معاناة سفلية وأخرى علوية، الأولى يرمز إليها "الطير الجارح"، والثانية يرمز إليها "الثعبان"، ومن هنا نعتبر أن هذه "البينية" جزء مما تشير إليه- عمودياً- جملة العنوان "بين الجوراح" أي؛ "بين الثعابين والطيور الجارحة". ولكن بمجرد أن يتمكن زرادشت من عبور هذه التجربة، ويتمكن فعلا من قتل جميع القيم-وعلى رأسها الضمير، وإلغاء الألوهة المفارقة- سوف يتصالح معه كل من الجوارح والثعابين كما نرى بوضوح في كتابه "هكذا تكلم زرادشت"، حيث يقول زرادشت مخاطباً الشمس:

"ولولاي أنا ونسري وحيتي لكان أصابك الملل من نورك، ومن هذه الطريق"(21).

إذن، فقد تبين لنا لماذا كانت السخرية جزءً من هجوم الطيور الجارحة على زرادشت، أي السخرية من محاولته اقتحام الهاوية دون أجنحة، بما يشير إلى اقتحامه عوالم غير مؤهل لاقتحامها. ولأن النص يسيطر عليه منطق البعد العمودي، كما أسلفنا، فيجب أن تنقسم مفرداته دلالياً إلى حقلين؛ الحقل العلوي والحقل السفلي على النحو التالي:

سواري/ قبر

خلاص/ سجين

مزهو/ عليل

حكمة/ خرق

آلهة/ شيطان

فضائل/ شر

عارفا/معذبا

نمرود/ زرادشت

منجم/ فراديس

وفي الصورة أدناه رسم يحاكي تفرُّع القصيدة في ذهن الشاعرعلى هيئة الشجرة:

 

 

 


إذا كانت "الجذور" للشجرة على مستوى المدلول المرجعي، لاحظ أنها أيضاً "جذور" للثعبان والحبال على مستوى المرجع الداخلي للنص، من حيث هو انعكاس لنمو المفردات في ذهن الشاعر لحظة الكتابة. وهذا يعني أن كلاً من "الإغراء" و"اللذغ" و"التعلق" و"الشنق" هي  أغصان بنيوية و سيميائية للصنوبرة. ومن وجهة النظر السيكولوجية، قد يجوز القول بأن إظهار هذه العلامات هو ما يبرر إضمار "الأغصان" و ما يتعلق بها في النص، أي أن هذه المفردات عبارة عن تعويض، لأن الشاعر يريد أن يطوّر شجرة الشعر والخطيئة في باطن الأرض (= الذات) كانقلاب على السماء (= المعرفة التقليدية).

وإذا قمنا الآن بالتحقيل الدلالي لمففردات النص حسب العموم والخصوص،

نلاحظ ما يلي:

إن الناص لم يذكر اللذغ، لكنه ذكر السم. ولم يذكر الشجرة، لكنه ذكر الصنوبرة. لم يذكر الغابة لكنه ذكر الصيد، وهكذا، ولو وضعنا هذه التكشيلات في جدول طوبوغرافي، فإن النتيجة المنطقية ستأتي كالتالي:

لذغ

مسموم+ عليل+ضحية

 

غابة

صيد+ سهام+ فريسة

 

شجرة

صنوبرة+شجرة تفاح+ خطيئة

 

إذا سلمنا بأن اللفظ العام يجب أن يكون فوق اللكات الخاصة التي تنحدر منها، اتضح لنا بأن القانون النصي الذي منع من ذكر "الأغصان" وسمح بذكر الحجذور، هو نفس القانون الذي عمل عمله في هذه الحالات، ولو طرحنا نصا عكسيا لقنا بأنه لو جاءت كلمة "لذغ" لجاءت أيضا الكلمات التالية: "غابة، شجرة...الخ".

 

ـــــــــــــــــــــ

(1) ديوان نيتشه، ترجمة: محمد بن صالح، منشورات الجمل، الطبعة الثانية 2009، ص 271.

(2) المرجع السابق، ص271-272.

(3) د.محمد مفتاح، حول مبادئ سيميائية، دراسة نشرت بالعدد 16 من "علامات"،

 وانظر الهامش رقم 15، حيث يشير إلى بيرس بخصوص مصطلح Abduction.

(4) ديوان نيتشه، المرجع السابق.

(5) المرجع السابق.

(6) المرجع السابق.

(7) المرجع السابق.

(8) المرجع السابق.

(9) المرجع السابق.

 (10) المرجع السابق.

(11) المرجع السابق.

(12) المرجع السابق.

 (13) المرجع السابق.

(14) المرجع السابق.

(15) المرجع السابق.

(16) المرجع السابق.

(17) المرجع السابق، ص 274.

(18) المرجع السابق.

(19) المرجع السابق.

(20) المرجع السابق.

(21) فريدريك نيتشه: هكذا تكلم زرادشت، ترجمة عن الألمانية: علي مصباح، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2007، ص35.

***

  

ملحق النص:

 

 

بين الجوارح

 

من يرغب النزول هنا

سريعا تمتصه الأعماق

لكنك يازرادشت

تحب الهاوية كما تحب الصنوبرة.

بجذورها ترمي الصنوبرة

حيث الصخرة ذاتها،

في الأعماق تنظر مرتجفة

تتردد الصنوبرة عند حافة الهاوية

حيث كل ماحولها يهم بالنزول

قرب لهفة الحصاة المتوحشة

قرب السيول المتهورة

صبورة، متسامحة، صلبة، صموتة، متوحدة.

أيها المتوحد !

من يتجرأ على النزول ضيفا هنا؟

من يتجرأ على أن يكون ضيفك؟

طير جارح ربما،

تعلق في فرح

بجمّة شهيد رصين

في ضحكة تائهة

ضحكة الطير الجارح.

لمَ كل هذه الرصانة؟

في بشاعة يسخر: لابد من أجنحة إذ نعشق الهوَّة

لانفع من البقاء معلقاً كما تفعل.

يا زرادشت !

يا أقبح من نمرود !

يامن تظل صياد آلهة !

ياشراك الفضائل كلها، ياسهم الشر !

والآن

مطارَدا من ذاتك،

ها أنت فريسة ذاتك، مبرِّحا بسهامك...

والآن

متوحدا مع ذاتك،

هاأنتَ

نافرا من حلمك وسط المرايا المئة.

مخطّئاً ذاتك

حائراً وسط الذكريات المئة

بكل الجراحات متعبا،

بكل المتجمدات مخمدا،

بحبالك مختنقا،

ياعارفا ذاتك !..يامعذبا ذاتك !

لمَا ارتبطت بحبل حكمتك؟

لمَ انجذبتَ إلى فراديس الثعبان العجوز؟

لمَ انسحبتَ داخل ذاتك؟

ها أنك الآن عليل

سم الثعبان عليلاً صيرك.

ها أنك الآن سجين

أتعس الأقدار حظك

محنيا تشقى

في قاع منجمك المحفور في ذاتك، ها أنك

بالفأس تغير على ذاتك

أيها المتصلب، أيها الأخرق !

جثة صرتَ مثقلة بمائة حمل جمعتها

أنتَ العارف ذاتك

أنت الحكيم زرادشت !

فتشت عن الحمل الأثقل

غير ذاتك ما وجدتَ

فما عدتَ تعرف منك خلاصك..

مترصدا في مكمنك

بتَّ لا تعرف الوقوف منتصبا

مغشى تنتهي في قبرك، يا فكراً تشوَّه.

إلى زمن قريب

كنتَ مزهواً بذاتك

على سواري عزتك

كنتَ منتصباً.

إلى زمن قريب

كنتَ وحيداً بلا آلهة

متوحداً مع الشيطان كنتَ

مع الأمير القرمزي، أمير كل المغالات.

والآن

مقهوراً

بين عدمين

أمسيتَ سؤالاً

لغزاً متعباً أمسيتَ، لغزاً للجوارح

ستنجح الجوارح في تقطيعك، فهي إلى ذلك ظامئة

لقد بدأتْ حواليك ترفرف

حواليك، أيها المشنوق ! تنثر ألغازها.

يازرادشت !

ياعارفا ذاتك !..يامعذبا ذاتك !

***