الاثنين، 7 ديسمبر 2020

الرواية العربية وسلطة الماضي

 

سعيد بودبوز

 

عندما يقوم الروائي بسرد مجموعة أحداث، معلوم أنه لا يستهدف من القارئ تصديقها، وإنما يستهدف إحداث العبرة. ولصيغة الزمن المهيمن (الماضي) على البنية السردية حصة الأسد من إحداث هذا الأثر (العبرة). وبالتالي، فإنّ للماضي سلطة ما على ثقافة المتلقي التي تساهم الرواية في بنائها وتنميتها إن بشكل أو بآخر.  إن تكريس ربط هذا الأثر (إحداث العبرة) بزمن الماضي في الرواية، لاشك أنه يكرّس، إلى جانب ذلك، تعلّقاً جانبياً بالماضي، ويترسّب هذا التعلق في أعماق العقل الباطن، ليضرب ضربته بين حين وآخر في جدار الحاضر بشكل أو بآخر. إننا، بعبارة أخرى، نمنح الماضي في الرواية كافّة الوسائل لإحكام قبضته على وجدان المتلقي، ونمكّنه من المزايدة على الحاضر، سواء من حيث نشعر أو لا نشعر، فبتكريس صيغة الماضي يشعر المتلقي، أو يتلقّى دون أن يشعر، بأن المنبع الوحيد للحكمة والصواب والفضيلة والعلم والإبداع والاختراع هو الماضي، وبالتالي فليس عليه فعل أيّ شيء آخر باستثناء الحفر في هذا الماضي عن كنوز قد تكون وهمية، وذلك على حساب الحاضر المتروك للآخرين. لا جدال حول أن الرواية العربية تسير بقوة في اتجاه التقليد من حيث الصيغة الزمنية للفعل السردي، ولا تبدو مستعدة للثورة على صيغة الماضي إلا فيما ندر، أو في مقاطع محدودة من هذا الذي وصفناه بـ "ماندر"، حيث نجد هذا النوع من الروايات مشغولاً بمصارعة الماضي على عدة جبهات، كما في رواية "أوراق"(1)، والتي سنأخذ منها بعض الأمثلة عن هذا الصراع بعد قليل. ففي هذه الرواية، يبدو اعتماد السارد لصيغة الحاضر في سرد الأحداث المفترض أنها ماضية، وسيلةً من وسائل التمرّد على سلطة الماضي في الرواية العربية.  

تتضمّن الرواية المذكورة أقصوصة تحت عنوان "الكهف"، حيث يحاصر العدوُّ مجموعةً من أفراد القبيلة بمن فيهم إمام المسجد وشيخ القبيلة، وتدور بينهم عدة حوارات نأخذ منها مقطعاً حيث يتحاور الفتى ابن شيخ القبيلة مع الإمام، فيقول هذا الأخير:"أتمنى على الله بوجه نبيه الأمين وأعمال عباده الصالحين أن يكون قد كتب أن لا أخرج حياً من هذا الكهف" !.

فإلى هذه الدرجة تذهب حماسة الإيمان بالإمام !. ويقول السارد عقب ذلك: "يبكي الفتى ضياع الهمّة ويبكي الإمام ضياع الإيمان. يقود الشرذمة المحاصرة شيخ القبيلة/ يظهر من حين إلى حين على الخشبة متبوعاً بغلامه وبالفرسان. تنبئ تصرفاته وأقواله أنه لا يرى فرقاً بين الحرب التي يقودها اليوم والحروب العديدة التي خاضها من قبل. يعتقد أن هذه قبيلة جاءت من بعيد لتغزو الوطن فعليه أن يدافعها بكل قواه/ يسأل غلامه عن عوائد الغزاة ويقول: هل يقبل رئيسهم المبارزة؟ يتفق الفتى وأبوه أول الأمر في حرصهما على مغادرة الكهف بأي وسيلة كانت"(2).

ففي هذا المقطع المختصر، نجد عشرة أفعال على صيغة المضارع، وهي: (يبكي، ويبكي، يقود، يظهر، تنبئ، لا يرى، يعتقد، يسأل، يقول، يتّفق). وطبعاً الرواية تتضمّن الكثير من مثل هذه الحالات، ولكنا اكتفينا بهذا المقطع كمثال. إن السارد (أو المؤلف) قد تصرّف بذكاء، وحسّ إبداعي عالٍ، وخبرة عميقة في علاقة النص الروائي بالعقل الجماعي الباطن إن جاز التعبير. إنه يرفض موقف الإمام القائم على التواكل، والداعي إلى اليأس والاستسلام لإفناء الذات وضياع الهمّة في نفوس الآخرين. لذلك يردّ عليه بالتي هي أنسب، وعلى أكثر من جبهة؛ يرد عليه من خلال موقف وتلميح وتصريح الفتى على مستوى مضمون النص، ويردّ عليه أيضاً من خلال صيغة الحاضر على مستوى الشكل، وهو الشيء الذي له تأثير على المدى البعيد والعميق. إنه ببساطة يصارع فيه الماضي بالمضارع. 

إن الإمام الذي ينتمي-بشكل أو بآخر-إلى القسم المحبوك بصيغة الماضي في الرواية، إنما يعيش بين مجموعة من جثث الأفعال، وبالتالي، فقد أبدى الساردُ أضعفَ إيمانه في إحياء هذه الأفعال،  حيث اعتمد صيغة المضارع بالموازاة مع  ردّ الفتى الضمني على الإمام. فحين يقول السارد "يبكي الفتى"، فإنما يريد أن يُشعرنا بأنّ هذا الفعل (يبكي) عابر للماضي، ومازال قضيةً ساخنة في الحاضر، وبالتالي فهو يحرّض فينا تفاعلاً أكثر حميميةً مع النص، ويُشعرنا وكأننا يمكن أن نشارك عن قرب في مجرى الأحداث المسرود عنها، وذلك من خلال تكسير الحاجز الزمني الفاصل بين الماضي والحاضر. 

فبضل "صيغة المضارع"، التي اعتمدها السارد لمكافحة صيغة الماضي في العمق، كما استخدم "همّة الفتى" لمكافحة "استسلام الإمام"، يشعر المتلقي وكأنه يشاهد ما يجري، أكثر مما قد يشعر بأنه يسمع بحكاية ما جرى. وفي قول السارد مثلاً: "يقود الشرذمة المحاصرة شيخ القبيلة"، يشعر المتلقي وكأن هذا النمط من القيادة لا نهاية له، كأنه مرتبط بقضية قد تكون مرشّحة للخلود إذا لم يحدث شيء (في  الحاضر) من أجل تغييرها أو تطويرها نحو الأفضل. وهذا الشيء الذي يُفترض أن يحدث في الحاضر، يشعر المتلقي وكأنه ليس من المستحيل أن يشارك فيه. 

إن السارد الذي اعتمد صيغة المضارع في المقطع السابق، يقرع بابنا ليقول لنا بأن هذه الأحداث عابرة للأزمان، كفى من دفنها حيةً في صيغة الماضي لتوهمونا بأنها انتهت، وبالتالي، فإن ربط هذه الأحداث والشخوص بالماضي لا يزيد من قوّة العبرة التي يمكن أن تؤخذ منها، وإذا كان ثمة من حكمة في نسج هذه أو تلك القصة، فإن هذه الحكمة لم تعد مرتبطة ارتباطاً عضوياً بالماضي، بل يمكن للإنسان الحيّ ثقافةً وعقلاً وفكراً، أن يستشفها من قراءة الحاضر أو استقرائه، أما الروائي تحديداً، فلم يعد ثمة شيء يجبره، أو يدفعه إلى مواراة إبداعه خلف مقولة (يحكى أن) أو (كان يا ما كان)، لم يعد مضطراً لإخفاء فعل "الخلق" في فعل "الحكي"، فلقد آن الآوان ليعلن بأنه خالق للنص، وليس مجرد ناقل مبدع أو ذكي لأحداث مازال الحياء يمنعها أن تتبرأ من الماضي. 

وما دام الروائي خالقاً لشخوص وأحداث نصه، فلماذا لا يتبنّى-فضلاً عن صيغة الماضي التقليدية- صيغةً أكثر جرأةً ليؤسس بها نوعاً من الاستشراف الفني، أو ما قد نسميه بـ "الرواية الاستشرافية"؟. وهي أن ينسج روايته باعتماد صيغة المضارع، فإن أوّل ما قد ينقشه مقطع روائي كهذا (يبكي الفتى ضياع الهمّة ويبكي الإمام ضياع الإيمان) في نفس المتلقي، هو أن ثمّة مجموعة من الشروط والظروف وأصناف من البشر إذا اجتمعوا، فإنّ نتيجة اجتماعهم معروفة، وهي كما جاء في المقطع، أي بئس المصير.  

ــــــــــ

 (1) د.عبد الله العروي: أوراق-سيرة إدريس الذهنية، ص202 الطبعة السادسة 2004، المركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع-الدار البيضاء-المغرب. 

(2) المرجع السابق: ص202-203


*** 


الأحد، 6 ديسمبر 2020

البعد الجمالي بين الأنا والآخر


   سعيد بودبوز


كثيرةٌ هي الذكريات الأليمة التي تتحوّل مع مرور السنين إلى ذكريات سعيدة، وتسحب صاحبها بحبل الحنين إلى الماضي بلا شروط. فعلى سبيل المثال؛ قد يحدث أن تقضي فترةً في قرية ما، وأنت فقير، أو ضعيف، أو مريض، لا سبيل للسعادة إلى قلبك. ولكن بعد مرور ما يكفي من الزمن، تتغيّر فيه أحوالك نحو الأفضل، وتصبح بعيداً عن تلك القرية وما عانيت فيها، قد يمتطيك الحنين مجدّداً إلى تلك الأيام، وتتمنى لو أمكنك أن تعود إليها كما يمكنك أن تعود إلى تلك القرية. وهذا يعني ببساطة أنّ ماضيك الحامض أو العافص تزبّب أخيراً وصار حلوَ الطعم كالعسل، شأنه شأن الزبيب والتمر والتين المجفّف. ذلك لأنّ من وظيفة الزمان "التطهير". فالمجرم الذي يحكم عليه القاضي بعشرين سنة سجناً، يصبح بريئاً يستحق الإفراج بعد أن يقضي تلك المدة الزمنية داخل السجن. 

وقد يصحّ الافتراض بأنّ المسافة الزمنية التي تفصل بين الماضي (المأساوي) والحاضر (نهاية المأساة/العقوبة)، في مثل هذه الحالات، إنما تساوي المسافة الوجدانية الفاصلة بين الشخصيات الممثلة في رواية أو فيلم أو على خشبة المسرح، وبين المُشاهد أو القارئ. أي كما تستمتع بالمآسي التي تشاهدها في فيلم سينمائي أو تلفزيوني، أو تقرؤها في رواية، كذلك يمكن أن تستمتع في حاضرك حتى ببعض المآسي التي عشتها أنت في ماضيك. وهنا يطفو البعد الجمالي على النفس، حيث أنّ كل شيء في هذه الطبيعة له بُعد جمالي، ولذلك فالمآسي نسبية لا يمكن الجزم بأنها مآسٍ مطلقة. عادةً يعتقد الإنسان بأنه لا يستطيع أن يضحك وهو ينظر إلى قوم يذبحون إنساناً. ولكن في الواقع ثمة زاوية جمالية aesthetic لو نظر منها إلى هذا المشهد، لربما أضحكه، أو على الأقل، قد لا يحرّك فيه مشاعر الاستنكار. 

فلعل كلّ ما يجعلنا نشعر بالحزن والرعب والقرف، هو أننا ننظر إلى المشهد المأساوي نظرةً ذاتية. فكلما نظرنا إليه نظرة موضوعية (أي كلما فصلناه وجدانياً عن ذواتنا)، اقتربنا من بعده الجمالي، ولهذا كثيراً ما ترى الإنسان يبكي بغزارة، ثم فجأةً يختم بكاءه بالضحك. وكثيراً ما تراه يضحك من سوء حظه دون أن يبكي طبقاً للمأثور القائل "من الهمّ ما يضحك"، لأنّ الإنسان، في هذه الحالة، إنما يفقد القدرة على الإحساس الذاتي، فيحسّ بأنّ ما يجري له إنما يجري لشخص آخر، ولعلّ هذا يحدث-بشكل أكثر جلاءً- كلما كانت المصيبة أو الضربة أو الورطة أكبر مما يحتمل الإنسان. ففي حادثة سير مثلاً يشعر الضحية بأنه "شخص آخر"، ولا يشعر بتاتاً بالألم حتى قبل أن يقع في غيبوبة. ولاحظ أنّ إحساس الضحية بأنه "شخصٌ آخر" يستدعي إلى أذهاننا ثنائية "الضحية" في فيلم مأساوي"، و"المُشاهد" الذي يستمتع بتلك الأحداث المأساوية. 

فلو أخذنا بعين الاعتبار-إضافةً إلى ما تقدّم ذكره- هدوءَ الكون إزاء ما يحدث في هذا العالم من الكوارث والمآسي والظلم والطغيان، وكيف أنّ الإنسان الذي يشعر ويفكر ويتخيّل سرعان ما يلفظ أنفاسه الأخيرة فيطويه النسيان وكأنّ شيئاً لم يكن..لو أخذنا هذه الأمور وغيرها بعين الاعتبار، فقد يبدو لنا أنّ أساس الكون جماليaesthetic، فكأنّ كلّ شخص، وكل شيء فيه "أنا" و"آخر" في نفس الوقت. كأنّ الألم ليس إلا حاجزاً مؤقّتاً ينظّم أحداث وشخوص المسرحية. وأنّ "الأنا" تختفي من على المسرح بالتزامن مع اختفاء "الألم" والإيذان باعتمار "الآخر" الذي قد يستمتع بهذا الألم !. وهذا ما يظهر جلياً في كل الأعمال الفنية، ففي الرواية الأدبية أو الفيلم-كما أشرنا سالفاً- لا أحد ينكر بأنه يستمتع بمآسي "الآخرين" ومصائبهم، بل إنّ من أهم ما يجعلنا نميّز بين قصص الأطفال وقصص الكبار هو أن قصص الأطفال تنتهي نهاية سعيدة، بينما تنتهي قصص الكبار عادةً نهاية مأساوية. 

إذن، كلما تألّم الآخرون في الرواية أو الفيلم، نشعر نحن بالمتعة، لماذا؟. لأنّ القناع الأخلاقي يسقط عنا في تلك الحالة، ونظهر على حقيقتنا بما ينسجم تماماً مع الطبيعة. فبسبب القناع الأخلاقي، نشعر بالحزن والرعب والقرف عندما نشاهد إنساناً يُذبح في الواقع، لأننا نحسّ بأن "الآخرين" لن يقبلوا استمتاعنا بتلك الجريمة الجادّة. أما حين نقرأ رواية أو نشاهد فيلماً، فإنما نظهر على حقيقتنا الطبيعية، ونشعر نحو الشخوص الخياليين تماماً كما نشعر نحو أنفسنا في الأحلام، أو أثناء تعرّضنا لحوادث دموية، أو مصائب لا نحتملها. 

إنّ ما يجعل المرءَ في الواقع يعطف ويبكي من أجل الآخر الذي يعاني ويتألّم، هو نفس الأمر الذي قد يجعله يبتعد عن نفسه في حالة ما لو تعرّض لحادث دموي على سبيل المثال. فكما وضع نفسه مكان الضحية سابقاً، كذلك قد يضع نفس الضحية (الآخر) مكانه لاحقاً إذا اقتضى أمر مأساوي لا قبل له بتحمّله. مازلت أذكر شخصاً سقط عن دراجته الهوائية قريباً من منزلنا في البلدة سنة 1994، فهرعنا إليه أملاً في إسعافه، فوجدناه فاقدا الوعي، لكنه سرعان ما صحا من غيبوبته وقال لأخي: "من أنا؟..وماذا حدث؟". بل أصرّ على معرفة هويته فقال: "أنا "فلان" أليس كذلك؟" أجابه أخي محاولاً طمأنته: "نعم، أنت "فلان" والحمد لله على سلامتك". وخلاصة هذه الورقة، أنّ البعد الجمالي للطبيعة يعني أننا جميعاً متفرّجون، مستمتعون بما يحدث لنا وللآخرين، وكلنا آخرون.

***