السبت، 14 أكتوبر 2023

ما قيمة كتاب "بهجة المَجالس وأنس المُجالس" في الأدب العربي؟


عندما نقرأ المقدمة، نشعر بشيء من الدسم البديعي، لكن سرعان ما يتلاشى ونجد أنفسنا أمام أسلوب فقهي أكثر منه أدبي. وأوّل ما نلاحظ أنّ لغة يوسف بن عبد البرّ لا تتجاوز مستوى رواة الدين أو في أفضل الأحوال لا تتجاوز مستوى رواة الأدب أمثال أبي علي القالي وأبي العباس المبرّد (هذا المبرّد عظيم في النحو، لكنه ضعيف جداً في الأدب). ثم نقرأ في الجزء الأوّل حديثاً جيداً عن أدب الجلوس والمجالس، بعد ذلك نلاحظ أنّ المؤلّف يكثر من الاقتباس والاستشهاد بأقوال وأخبار رموز الدين وليس رموز الأدب إن جاز التعبير، إضافة إلى أنّه يكثر من عرض الأسانيد في المتن بدل أن يُصرفها للهوامش، وكأنّه يسير على منوال كتب الأحاديث النبوية. ثم نلاحظ أنّ المؤلّف ليس لديه رؤية واضحة للأغراض الأدبية؛ فهناك خلط بين الأدب والدين، وإن كان يستشهد بالأشعار والأمثال وأحياناً قليلة بالنوادر والطرائف، لكن الطرائف الجيدة بحاجة أيضاً إلى ذوق أدبي رفيع من أديب بارع كالجاحظ والتوحيدي وأمثالهما.
يبدو لي أنّ يوسف ابن عبد البر لم يقرأ كتاب الأغاني للأصفهاني، ولا كتاب الحيوان للجاحظ، ولا مجالس ثعلب، ولا كتاب الكامل للمبرّد، ولا أمالي القالي، ولا شيءَ مما كتبه أبو حيان التوحيدي الذي عاصره (وإن كان يكبره بحوالي 60 سنة)، ولا أقول "أدب الكاتب" لابن قتيبة الدينوري، لأنّ المجالين متباعدان. ولأنّ يوسف بن عبد البر لم يستوعب ما كتبه السابقون في هذا المجال على ما يبدو، فلذلك يقفز مباشرة إلى الرواة القدماء وأبرزهم الأصمعي الذي هو مرجع أساسي للأدباء المذكورين، وطبعاً يكثر من الارتواء بروايات رجال الدين ويكثر من الاستشهاد بأقوال الرسول محمد (ص)، وهذا يؤكّد تغليبه النزعة الدينية على الفنّ الأدبي، وكثيراً ما تختلط عليه المقاييس فيحتكم للحلال والحرام بدل الجيّد والرديء، ويقتبس من الأشعار والأخبار ما يخدم الوعظ الديني بصرف النظر عن جودته أو رداءته الأدبية. ومع ذلك يطلق العنان لقلمه إلى حدّ التفحّش في الجزء الثالث، حيث يتحدث عن تبادل الرسائل بين الولاة كالحجاج ويزيد بن المهلّب وكيف كانوا يختارون النساء بناءً على مآثرهن الجسدية، فيظهرون كمجموعة من السكارى أو الحمقى. وقد يسهب في استعراض مظاهر أدبية لكنّها ملجَمة بأغراض دينية، ليس لأنّ يوسف شديد التديُّن، بل لأنّه ببساطة قليل الاطلاع على أمهات كتب الأدب، وإنّ هذا الاستنتاج لا يحتاج إلى كثير من الذكاء والتحليل والتعليل، فمن الواضح أنّ قوّة التراكم الأدبي والعلمي المخزّنة في تلك الكتب لا تكاد تظهر في كتابه "بهجة المجالس" ولم تحقق فيه أي تطوّر. عندما نقرأ "العقد الفريد" مثلاً، نلاحظ بوضوح أنه امتداد متطوّر لكتب الأدب السابقة ككتاب "الحيوان" و"مجالس ثعلب" و"الكامل" للمبرّد و"أدب الكاتب" للدينوري الذي عاصره (ويكبره بحوالي 33 سنة) سواء صرّح ابن عبد ربه بقراءة تلك الكتب أو لم يصرّح، المهمّ أنّ التراكم الأدبي والعلمي الذي تحمله تلك الكتب تمّ استثماره في العقد الفريد ليظهر بشكل متطوّر، وهذا غير موجود لدى يوسف بن عبد البر، فبدل أنّ يأتي كتابُه "بهجة المجالس" أكثر تطوّراً من العقد الفريد نفسه، نجد أنه يعود بمرتبته الضعيفة إلى ما قبل مجالس ثعلب !.
ليس عيباً ولا نقصاً أن يميل المؤلّف كلّ الميل إلى الدين على حساب الأدب، فكل ما في الأمر أنّ هذا الكتاب لا يستحق تلك الرتبة الممنوحة له بين أشهر أمهات الكتب الأدبية، لأنّه في الواقع، أو حسب تقييمي الشخصي، ليس له في الأدب العربي قيمة كبيرة، فهو برأيي يأتي في آخر مرتبة بعد "الأمالي" و"الكامل" اللذين قلتُ سابقاً بأنهما أقلّ قيمة من "مجالس ثعلب" رغم أنهما أوسع منه شهرةً. وبالتأكيد لا يرقى هذا الكتاب إلى مستوى "العقد الفريد" بأيّ حال. والخلاصة؛ أنّ هذا الكتاب مفيد جداً لرجال الدين وخطباء المساجد وكل من يرغبون في الاستزادة من الثقافة الدينية وتهذيب خطابهم الديني، وكذلك مفيد إلى حد ما لعشاق الأدب، لكنه ليس كتاباً أساسياً في الأدب ولا يمثّل جوهر الأدب العربي أحسن تمثيل.

سعيد بودبوز