يُنسب هذا الكتاب إلى أبي حيان التوحيدي، ولكن عندي بعض الشكوك في بعض فصوله كما سأبين لاحقا. هذا الكتاب أقلّ شهرة في الأدب العربي من أمهات الكتب المعروفة، وإن كان لأبي حيان التوحيدي شهرة واسعة وحضور قوي في الأدب العربي الكلاسيكي. الجزء الأوّل غامض، ومضطرب يتمحور حول المواعظ الديـ.ـنـ.ية بالدرجة الأولى، وليس له قيمة أدبية تقريبا. ولكن ليس هذا كل شيء، بل إنّ الأسلوب المستعمل في المقدمة والمتن لا يبدو لي أنه أسلوب التوحيدي، سواء من حيث الشكل (غير بديع)، أو من حيث المضمون (وعظي)، ومعروف عن رجال الـ.ديـ.ـن في الإسـ.ـلام أنهم يتميّزون بالضحالة في الكتابة الأدبية، ولعل خير دليل على ذلك أنهم عجزوا عن كتابة السيرة النـ.بـ.وية بأسلوب سردي معتبر حتى الآن، وقد كتبت عن هذا الموضوع سابقا فقلت بأنّه رغم عشرات السير النـ.بو..ية التي كتبها رجال الـ.ديـ.ن فإنّ مخرج ومنتج فيلم الرسالة لجأ إلى قصة كتبها كاتب إسكوتلاندي بمساعدة من أدباء مصريين، لاحظ (أدباء وليس فـ.قـ.هاء ولا كُتاب التراجم العرب...).
ورغم تصريحه بأنه سيأخذ في هذا الكتاب مما ورد في مجموعة كتب الأدباء الأسلاف أمثال كتاب "العيون" للدينوري، و"مجالس ثعلب" وكتاب "المنظوم والمنثور" لابن أبي طاهر، وكتاب "الأوراق" للصولي، وكتاب "الوزراء" لابن عبدوس، وكتاب "الحيوانات" لقدامة وغيرهم، فإنّ الذوق الأدبي الرفيع الذي أعرفه لدى التوحيدي لا يكاد يظهر منه شيء في انتقاء هذه المواد. ومع ذلك نجد فقرة في مقدمته تتسم بشيء من البداعة. المؤلف يكثر الاقتباس من أقوال الـ.رسـ.ول (ص) والصـ.حابة، شأنه في ذلك شأن ابن عبد البر في كتابه "بهجة المجالس..."، وأحيانا يقترب من أسلوب منصور الآبي في كتابه "نثر الدر"، لكن هذا الأخير- كما سبق لي أن كتبتُ- أنّه بعد الصفحة 300 من الجزء الأول، يترك المواعظ ويدخل في صلب الأدب العربي بشكل رائع، ويمضي على هذا النحو إلى آخر الكتاب. وطبعا لا يرقى إليه كتاب "البصائر والذخائر".
في الجزء الثاني من هذا الكتاب، نقرأ مقدمة هزيلة مشحونة بالوعظ، وبعدها يقرر المؤلف بأنّ هذا الجزء مخصص لبصائر القدماء، وأسرار الحكماء، ونوادر الملحاء، وخواطر البلغاء". ويعترف قائلا: "وقد صار إليك الأوّل على اضطرابٍ من تشتت أجناسه وفصوله". ثم يورد فقرة بديعة يسـ.تشـ.هد فيها بواصل بن عطاء (شيخ المعتزلة)، وقد شعرتُ كأنّ هذه الفقرة من تأليف الجاحظ، المولع بالمعتزلة وشيخهم واصل بن عطاء الذي يدافع عنه في كتابه "البيان والتبيين" وسيأتي وقت الحديث عنه، لكني أعرف أيضا بأنّ أسلوب التوحيدي قريب جدا من أسلوب الجاحظ، لأنه تلميذه، وهذا يعني أنّ هذه الفقرة قد تكون من تأليف التوحيدي فعلا. لكنه سرعان ما يستغرق في الوعظ الـ.ديـ.ني مستـ.شهدا بعـ.لي بن أبي طـ.الب وغيره، ثم بعد ذلك يتحسّن أسلوبه ويورد مجموعة من الملح البديعة شكلا وإن كانت ذات مضامين ديـ.نـ.ية. ويُحسب له أنه لا يكثر من العناعن والأسانيد كما يفعل ابن عبد البر في "بهجة المجالس..".
في الجزء الثالث تطالعنا مقدمة يصعب الجزم بأنها للتوحيدي، رغم بداعتها وجمالها. ويمضي في أسلوب بارد هزيل إلى الصفحة 82، حيث نستشعر ذوقا رفيعا في انتقائه المادة الأدبية، ويمضي على هذا النحو تقريبا إلى نهاية هذا الجزء. في الجزء الرابع، تطالعنا مقدمة وعظية المضمون، لكنها على شيء من البداعة في الشكل، ويمضي على هذا النحو إلى الصفحة 101، وهنا يفاجؤنا أسلوب أبي حيان التوحيدي الرائع الذي تعوّدنا عليه في الأجزاء الأولى من كتابه الشهير "الإمتاع والمؤانسة"، إنه أسلوب المناكفة الذي ورثه من الجاحظ على ما يبدو، وإن كانت هذه المناكفة عند الجاحظ أعنفَ وكثيرا ما تتحوّل إلى مسالخة، بل إلى سلخ مبين حيث يظهر الجاحظ جزّاراً أدبياً لا يمل ولا يكل من الفتك بخصومه.
ويكاد يتضح أسلوب التوحيدي هنا في قول المؤلف: " ولكن أين جسارة مثلي وإقدامه وتحكّكه واعتزامه؟ .."
ويضيف مناكفاً: "اعلم أنّ هزل بن معروف كان مغموراً بعلمه وأدبه، وكان محتملاً لشكله وظرفه.." إلى قوله: "وأسندت نفسي إلى عمّ بالعراق، ولو سلخني المغاربة سلخاً، ونفخوا في جلدي نفخاً، لكان أهون عليّ مما قد عاملني به.".
ثم يقول: "طال هذا الفصل وما أردت ذلك ولكن لتمزيق عرض اللئام حلاوة لا توجد في مدح الكرام". هذا هو التوحيدي عندما يعتريه مسّ من الجاحظ!.
بعد ذلك يتعاقب على الكتاب مد وجزر، وفي الصفحة 225 أشعر مرة أخرى كأنني أمام الجاحظ، حيث يشرح بعض الألفاظ فيقول: "أما البر فخلاف البحر، وهي بلاد لا حيطان فيها، ولا نعتقد أن البلد لا تكون إلا ما فيها حيطان.." الخ. ثم يختم هذا الجزء بمجموعة من الأمثال والمآثير الأدبية القصيرة. وقد ابتعد عن الاقتباس من رموز الـ.ديـ.ن، وعاد إلى منهج رواة الأدب العربي حيث صار يقتبس من الأصمعي والأحنف وابن المقفع وأمثالهم، ثم يذيّل هذا الجزء بموعظة ديـ.نـ.ية.
في الجزء الخامس كالعادة تطالعنا مقدمة ديـ.نـ.ية، لكنها بديعة يجوز أن تكون من تأليف التوحيدي، ثم يليها متن مشبوه كأنه من صنع الورّاقين، وكأنّي بهم أرادوا تديـ.ين وتوريع سيرة التوحيدي الذي كان متهما بالزنـ.دقة كما نقرأ عنه في بعض كتب التراجم، وهذا لا يمنع من دسّ بعض العسل الأدبي التوحيدي في مادة الـ.ديـ.ن الشمعية، ولا نقول شيئا آخر. يمضي المؤلف على هذا الأسلوب الوعظي البارد إلى حدود الصفحة 21، وهنا يظهر شيء من أسلوب التوحيدي، ومن الطبيعي أن يظهر اسم الأصمعي هنا بدل أسماء الصحـ.ابة أو التابعـ.ين المـ.تقـ.ين. يمضي على هذا النحو إلى حدّ التفحّش في الصفحة 33، وبهذا يشبه ما نقرؤه في "بهجة المجالس" من التأرجح بين التقوى التي تشارف التـ.طـ.رّف، والتمجّن الذي يشارف الانحـ.راف.
يتابع رواية الأطاريف الأدبية
البديعة، إلى أن يتحدث عن الأحاجي في الصفحة 145حديثا بديعا ومفيدا جدا، ويمضي على
هذا النحو إلى نهاية الكتاب، وبشكل يعاكس كتاب "الإمتاع والموانسة" من
الناحية الجمالية، فلو سلّمنا بأنّ هذا الكتاب كله من تأليف التوحيدي، فالملحوظ
أنّه يبدأ بأسلوب هزيل وينتهي بأسلوب بديع، بينما يبدأ الإمتاع والمؤانسة بأسلوب
بديع وينتهي بأسلوب هزيل. والخلاصة أنّني أضع شخصيا هذا الكتاب في مرتبة دون
"بهجة المجالس" بقليل، ويكاد يرقى إلى مستواه تماماً، ولكنه لا يرقى بأي
حال إلى مستوى "الإمتاع والمؤانسة"، خاصة أجزائها الأولى.
.