نُشر هذا الموضوع في مجلة "الرافد" الإماراتية.
تستهدف هذه الدراسة إبراز طبيعة َالتداخل والتخارج بين جنسين أدبيين، وهما؛ الشعر والسرد، وإبراز بعض أهمّ العوامل التي تؤدي إلى انحدار السرد من الشعر أو العكس، حيث نلاحظ أن معاصرة السرد للشعر، في زمان ومكان ما، لا تعني أن كلاً منهما ظهر بصفة معزولة عن الآخر كأنداد من جهة، ولا تعني أنهما دائما على نفس الدرجة من الاعتبار داخل الوسط القرائي من جهة أخرى، بل يحدث، بين فترة وأخرى، أن يكون هناك تفاوت في الدرجات، بحيث يضطر أحدهما لامتطاء الأخر، ليس من أجل تبليغه بالضرورة-خاصة في بداية المشوار- بل من أجل تبليغ الذات؛ أي أن الشعر- في هذه الحالة- يمتطي السرد لكي يبلغ نفسه- والعكس صحيح.
أما لماذا يميل القارئ عن القصة إلى
القصيدة، أو العكس، فهذا موضوع آخر لا يتسع المجال أمامنا الآن للخوض فيه. ولكي
نستغور دقائق الوشائج الرابطة بين الشعر والسرد بأقصى الإيجاز والتبسيط، قد يجدر
بنا تفكيك الظاهرتين الأدبيتين إلى سيماتهما الحيوية (الحركية) البسيطة، حيث نفترض
بأن العمق الحيوي الذي تنمو حوله القصيدة هو "الرقصة"، وأن العمق الحيوي
للقصة، في المقابل، هو "المشية".
و لا يفوتنا أن نميز هنا بدقة بين
"الرقصة" و"الرقص"، نظرا لكون الأولى مرتبطة بقصيدة معينة
خصوصاً، كما يرتبط الرقص بالشعر عموماً، وعلى هذا الأساس، فإن الفرق بين الرقصة
والرقص، هو أن الأولى تكرّر ذاتها على نمط وإيقاع محددين، في حين أن الرقص يُطلق،
بصفة عامة، على جميع الرقصات المتباين بعضها عن بعض، كما يطلق "الشعر"
على جميع القصائد التي يمكن أن يُنسج بعضها مثلاً على البحر "الطويل"،
والثانية على البحر "الكامل"، والثالثة على البحر "البسيط"
وهكذا.
أما السرد، فبوصفه نثراً، حسب التقسيم
الكلاسيكي، وبوصف النثر نقيضاً للنظم أساساً، فلنقل بأنه "مشية" في حالة
"قصة" ذات بنية مميزة ومحددة كالمقامة العربية أو القصة القصيرة الحديثة
أو الـ "ق. ق. ج". ولكن لا بأس من القول بأنه "مشي" في
الرواية على سبيل المثال، بل هو مشي كيفما، وأينما، اتفق في كثير من الحالات.
والآن، وفي ضوء ما جاء في هذه
التوطئة، يومض أمامنا هذا السؤال: ماذا يعني انحدار الجملة السردية من البيت
الشعري؟
وتأتي الإجابة على النحو التالي: يعني
خروج الأديب من بحر الشعر إلى بر النثر، يعني "الانتقال" من إيقاع
الأمواج المتحكمة في "القارب"، إلى مشية يتحكم فيها "صاحب"
الراحلة. إن الرقصة عموما ذات مسار "دائري"، في مقابل
"المشية" التي لها مسار خطي، ذلك لأن الإيقاع، من حيث هو انتظام للكلمات
في تتالي معين، إنما يكرر ذاته، ومن هنا
يمكن اعتبار الشعر تعبيراً لغويا عن الرقص الدائر في نقطة زمانية ومكانية محددة،
حيث تكون أبيات القصيدة عبارة عن تلخيصات أو توسيعات لبعضها، وتوسيعا وصفيا لموضوع
المدح والقدح والهجاء والغزل و الرثاء.. الخ.
ولا يخفى عن القارئ أن انتهاء البيت
الشعري، الذي يعقبه ابتداء البيت الثاني من نفس المنطلق الموسيقي، يعني نوعا من
"الدوران"، لكن النثر، بوصفه نقيضاً لهذا النظام بالذات، يمكن اعتباره
مساراً خطياً، أي نقيض الدائرة الشعرية التي يقوم أصلاً على تكسيرها. إذن،
لنقرر-على سبيل التبسيط- بأن الشعر في العمق حركة دائرية، وأن السرد في
العمق-وبوصفه نثراً- حركة خطية.
لنتصور شخصين؛ واحد يرقص والثاني
يمشي، فالأول ينبغي أن يظل دائراً في مكانه، وحول محوره، حتى لا تتحول الرقصة
مثلاً إلى مشية، وبمجرد أن تتحول الرقصة إلى مشية، يتحول المسار الدائري إلى مسار
خطي، وهذا ينجم عنه الإخلال بنظام الرقصة.
ثم إن ارتباط الراقص بنظام الدوران-
حول الذات أو محور (مكان) محدد- لابد أن يكون متعلقاً بحضور جمهور ما، وإذا طبقنا
هذا الوصف على الشعر، يظهر أن المتلقي- أو موضوع القصيدة (الممدوح أو المقدوح)- هو
الجمهور، أو جزء من الجمهور. إذن، يمكننا الافتراض بأن زمن ذلكم الرقص قد يطول
كلما طال حضور الجمهور داخل القاعة، ولكن ماذا يحدث لو أن ذلكم الجمهور انتقل من
هذه القاعة، التي اعتاد على الحضور فيها، إلى مكان آخر؟.
في هذه الحالة، قد ينتقل الراقص نفسه من تلك
القاعة إلى ذلكم المكان الآخر، حيث يمكنه أن يحظى بجمهوره، أو جمهور آخر، أو يضطر
للقيام بعرض آخر قد يكون مختلفاً عن الرقص، ولاحظ أن بيت القصيد في هذا التصوير
هو"انتقال" الراقص من "قاعته" خلف "الجمهور"، بصرف
النظر عما يمكن أن يحدث بعد ذلك، لأن هذا "الانتقال" سوف يأخذ مجراه في
أعماق الجملة السردية، وسوف يتلبسها بشكل باطني، ويستولي على السارد بشكل لا
شعوري، ليعبر عن ذاته بطريقة فنية دقيقة، حيث أن هذا "الانتقال" يعني-ببساطة- تحول الرقص إلى مشي، وبالتالي،
فهو يعني إخلالا بنظام الإيقاع (الشعري) لصالح الحركة (السردية) في مسار خطي.
وإذ نتحدث عن كل من
"الرقصة" و"المشية"، بوصفهما عُمقين حيويين للشعر والسرد قبل
أن يتمّ استثمارهما فنياً، سنقرّر بأن تحول البيت الشعري إلى جملة سردية هو انعكاس
جدلي وفني عميق لحالة انتقال الراقص إلى ماشٍ، مع العلم أن السرد سفر، أو- كما
بيَّن فلاديمير بروب- هو ابتعاد éloignement والذي يشير إليه بالرمز (-ß )، حيث يقول بروب في
حديثه عن الشخصية القصصية:
"والأشكال المألوفة للابتعاد هي السفر إلى العمل، أو
الغابة، أو التجارة، أو الحرب، أو الاهتمام بشؤونه..."(1). ومن هنا نتتبع مظاهر العلاقة بين المضمون والشكل في كل
من الملحمة الإغريقية، والمقامة العربية، حيث نلاحظ، على مستوى مضمون الملحمة
الإغريقية، أن الشعر يضطر للتحرك (المشي السردي) من أجل إخبارنا بأمجاد الأبطال،
وإن هذه الأمجاد لها ظاهر وباطن؛ إنها سلعة ظاهرية تغرينا- كجمهور- بالاقتراب نحو
السلعة الباطنية التي تتمثل في الشعر ذاته.
فمن حيث هي سلعة ظاهرية، تغرينا بالاقتراب من
مهارة الناصّ الأدبية بشكل خاص، ولكن من حيث هي سلعة باطنية أيضا، تستدرجنا بالسرد
نحو الشعر، وربما العكس هو الصحيح، المهم أن هذه الظاهرة الأدبية تعكس واقعاً مال
فيه المتلقي عن جنس أدبي إلى آخر، وفي ذروة تمكُّن الأديب من أصول وفروع الجنس
الأدبي الذي صار محلّ إهمال من لدن المتلقي، وهنا نجد أنفسنا أمام احتمالين؛
إما أن يكون وراء ذلك حدث ثقافي ما أدى
إلى نفور المتلقي من الشعر ذاته، مما دفع بالشاعر إلى تزويج القصيدة بالقصة، وإما
أن الملحمة تمهيد وتسويغ للنزول بالفعل السردي من الطور الأسطوري (أبطال آلهة) إلى
الطور الملحمي (أبطال البشر) كما ذهبنا في الفصل الثالث من هذا الكتاب، وقد لا
نجانب الصواب لو قلنا بأن الاحتمال الثاني هو الصحيح، مع أن صحته لا تنفي الاحتمال
الأول بالضرورة.
إن زواج الشعر بالسرد في إطار المقامة
العربية، يعني، في عمق الظاهرة، تتالى الرقصة وتحولها إلى مشية، فلو تحدثنا بشكل
حصري عن ميلاد السرد الأدبي داخل الثقافة العربية، لأمكننا بسهولة الكشف عن بداية
السيرة (المشي) السردي بالرقصة (الإيقاع) الشعري، أي الشعر في حالة انفراط نظمه
ليظهر على شكل نثر، مع الاحتفاظ بالقافية نوعا ما متمثلة في السجع، وما يصب في ذلك
من التحسين البديعي الذي يجعل من المقامة مولودا هجينا للزواج الحاصل بين القصيدة
والقصة.
أما في حالة "المقامة
العربية"، فيبدو أن تضافر الشكل والمضمون في تصوير الواقع الثقافي الذي أدى
إلى انحدار الجملة السردية من البيت الشعري، أكثر وضوحاً، حيث يمكننا بسهولة أن
نلاحظ ونقرّر بأن المقامة العربية تعبّر
عن تحول رقصة القصيدة إلى مشية قصصية قام بها الشاعر العربي بحثا عن
الجمهور ! وهذا يعني
أن هناك أمراً ثقافياً قد حدث في مرحلة من العصر العباسي أدى إلى ميلان المتلقي عن
الشعر، وقد ذهب إلى هذا الطرح بعض الدارسين للأدب العربي، نذكر منهم الدكتور عبد
الفتاح كليطو الذي تحدث عن هبوط قيمة الشعر في العصر العباسي، حيث تم "تجريد
الشاعر من الهالة النبيلة التي كانت تحيط باسمه وتشبيهه بالمكدي الذي يستجدي الناس
من أجل العيش"(2)، وقد استدل واستشهد الدكتور عبد الفتاح كليطو على
أطروحته بمجموعة من الآثار، منها بيت لابن الحجاج، والذي يقول فيه:
وَقـَد تنَاهى أمْري إلى أنْ بكّرتُ
من مَنزلي أكدي
و رسالة بديع الزمان الهمذاني إلى أحد
الرؤساء، حيث يقول: "أنا أطال الله بقاء الشيخ العميد مع أحرار نيسابور في
صنعة لا فيها أعان. ولا عنها أصان. وشيمة ليست بي تُناظ. ولا عني تُماظ. وحرفة لا
فيها أُدال. ولا عني تزال. وهي الكدية"(4). هذا وقد قال ابن خلدون
عن تلك المرحلة: "...فصار غرض الشعر في الغالب إنما هو الكذب والاستجداء
لذهاب المنافع التي كانت فيه للأولين "(4).
إن شكل هذه الظاهرة الأدبية (المقامة)
يتضافر مع مضمونها-كما أسلفنا- في تسجيل "الحاجة" الشعرية إلى المشية
السردية؛ فلو نظرنا إلى تيمة المقامة لدى بديع الزمان الهمذاني مثلاً، لوجدنا أنها
تدور حول شاعر اضطر إلى التحرك (السردي؟) بعد أن أصبح شعره مهدداً باللامبالاة
والاستخفاف من طرف المحيط، فيبدو أن أبا الفتح الإسكندراني"شاعر لا شغل له
سوى استجداء الناس في الأندية والطرقات"(5)، وإذا تساءلنا-بناءً
على ما ذهب إليه الدكتور عبد الفتاح كليطو- متى يحدث السرد؟
يأتي الجواب أن السرد يحدث
"عندما لا يكون بد من ذلك، ويصبح السرد الوسيلة الوحيدة للخروج من ورطة أو
موقف صعب"(6). حتى وإن صرفنا النظر الآن عن "حكايات ألف ليلة
وليلة" مثلاً، حيث يبدو السرد كأنه الوسيلة الوحيدة لنجاة شهرزاد من سيف
شهريار، ينبغي أن نلاحظ بأنه، حتى في الحياة الاجتماعية اليومية، يبدو أن للسرد
دوراً حاسماً في تخلُّص الإنسان من ورطاته، فعلى سبيل المثال:
عندما تقوم الشرطة بإلقاء القبض على
متهم أو مشتبه به، يصبح السرد إما مطلوباً وإما إجبارياً، حيث يتعين على المعتقل
أن يحكي قصة ما حدث للشرطة، ويحكي لهم ما يلزم لنجاته من قبضتهم بجلده، وفي
المحكمة أيضا ليس أمام المتهم إلا أن "يحكي"، بل وغالبا ما يتوقف حكم
القاضي على جودة الحكي ومنطقيته وسلامته بكل الدلالات.
وبناءً على ذلك، فإن ظهور أبي الفتح
الأسكندراني في مقامة بديع الزمان الهمذاني، إنما هو تعبير لاشعوري عن
"اضطرار"الشاعر إلى الدفاع عن شعره في هذا الدرك الحرج من التهميش؛ إن
أبا الفتح هذا يعبر عن اصطدام الفن بلحظة الجد، حيث يتعين على "الإنشاء"
أن يتوقف قليلاً، لصالح "الإخبار"، فلم يعد أبو الفتح يدور برقصة الشعر
في دائرته المغلقة، بل صار يمشي بقصته في الطرقات والساحات، معتمداً شتى الطرق
لاستدراجهم إلى سماع قصته وما آل إليه كشاعر.
ومن هذا المنطلق، يمكننا القول بأن
أبا الفتح الإسكندراني هو ذلك الشخص الذي- بعد أن كان شاعراً (ساكناً) يأتيه ما
يستحق من الاعتبار، من طرف المتلقي، على المستويين؛ المعنوي والمادي- وجد نفسه
أمام انقلاب الدهر الذي يهدد الشعر بالانقراض، وفي هذه الحالة، توقف أو كاد يتوقف
ما كان يحظى به من الاعتبار، حيث كان يدور حول محوره منتشيا برقصته الشعرية، فما
كان من أبي الفتح-بعد أن وقع الفأس في الرأس- إلا أن خرج (تحرك) من سكونه الشعري.
وأثناء هذا الخروج، انفرط النظم، وتحول إلى نثر،
كما يمكنك أن تتخيل كوكباً أو قمراً يخرج عن مداره بأن يُقدم على حركة خطية كارثية،
فهكذا تتبدّى لنا علاقة الشعر بالدوران
حول محور الذات، قبل أن تكون ثمة ضرورة ما لتحويل هذا الدوران إلى مسار مستقيم
استعداداً للتحرك من ذات الملقي (الشاعر) إلى موضوع الإلقاء (القاريء/الممدوح..الخ).
وفي تكسير منظومة التفاعيل الموسيقية للنظم
الشعري، ما يساوي تحويل الرقصة إلى مشية، وتحويل المسار الدائري المنظم إلى مسار خطي
مطّرد. وفي هذا المسار الأخير، سيحل أسلوب الإخبار محل أسلوب الإنشاء شيئاً فشيئاً،
كما يتدخل السرد النثري في الوصف الشعري ليضفي عليه تسلسلاً زمنياً محاكياً لتعاقب
الأحداث في الواقع المرجعي.
وقد نلاحظ أن أبا الفتح الإسكندراني،
في مقامة الهمذاني، كثيراً ما يتنكّر، وكأنه المتهم البريء الذي عليه أن يثبت
براءته قبل أن يُظهر وجهه للناس. يبدو ذلك واضحا، حيث يروي الراوي (عيسى بن هشام)
مجموعة من الأحداث الشيقة، وفي ختام المقامة يكتشف (ويكشف) ارتباطها بأبي الفتح،
وكأن منبع ما يمكن للمقامة أن تثيره من التشويق هو أبو الفتح؛ الأديب الفذّ
(البريء) الذي يستحق الاحترام والاعتبار، بدل النبذ والاحتقار. فكأن الراوي- عيسى
بن هشام- يصول ويجول في صحراء السرد بحثاً لأبي الفتح عما تيسَّر من الاعتبار،
ودرءً عنه لما تعسَّر من الاحتقار. لكأنه يحاول أن ينقل مناقبه الفانية إلى
العوام، بقدر ما يحاول أن يقتل مثالبه النافية للاحترام.
في المقامة القريضية مثلاً يتحدث عيسى
بن هشام عن كيف أنه جلس يوما "يتذاكر القريض" مع رفقائه، وكان أبو الفتح
الإسكندراني يجلس تلقاءهم "غير بعيد ينصت وكأنه يفهم، ويسكت وكأنه لا
يعلم"، دون أن يكشف عن هويته إلا في ختام المقامة، و بعد أن قال وأبلغ في
القول:"أصبتم عديقهُ، ووافيتم جُديله، ولو شئتُ للفظتُ وأفضتُ، ولو قلتُ
لأصدرتُ وأوردتُ، ولجلوتُ الحقَّ في معرض بيان يُسمعُ الصُّمَّ، وينزل
العُصمَ"، قال له عيسى بن هشام:
"يا فاضلُ ادنُ فقد منّيتَ،
وهاتِ فقد أثنيتَ، فدنا وقال: سلوني أجبكم، واسمعوا أعجبكم، فقلنا: ما تقول في
امريء القيس؟ قال: هو أوّل من وقف بالديار وعرصاتها، واغتدى والطير في وكناتها،
ووصف الخيلَ بصفاتها، ولم يقلِ الشعرَ كاسياً، ولم يُجد القولَ راغباً، ففَضَلَ من
تفتّقَ للحيلة لسانُه، وانتجع للرغبة بنانه".
ثم سألوه عن عدد من الشعراء، فأجاب
وأجاد، وكل هذا دون أن يُكشف للقارئ (أو متلقي المقامة) عن هوية هذا الشاب المتمكن
من تاريخ الشعر، مما يشي بتمكنه من أصوله و فصوله، إلا في نهاية النص، حيث سأله الراوي عيسى بن هشام "فلو أريتَ من أشعارك،
ورويت لنا من أخبارك". لاحظ الجمع بين الأشعار والأخبار هنا؛ فكأن الأشعار لم
تعد تكفي، إذ صار لابد من الأخبار (= سرد) التي تكشف لنا عن السجل الأخلاقي للشاعر
في هذا العصر الذي أصبح فيه متهماً، ولذلك أجاب أبو الفتح، دون تردد، قائلا "خذهما
في معرض واحد:
أما تـرونـي
أتـغشـّى طِمراً مـمتطياً في الضّـُرِّ أمـراً مُرّاً
مضطبنا على
الليـالي غِـمراً ملاقياً منها
صـُرُوفــاً حَمـراً
أقصى أماني
طلوع الشِّـعرى فـقد عُـنيـنا
بـالأمـاني دهراً
وكان هذا
الـُرُّ أعـلى قـدرا ومـاءُ هـذا الوجـه
أغلى سِعراً
ضربتُ للسرا
قبباً خُـضـراً فـي دار دارا وإوانِ
كـسـرى
فانقلـبَ الدهر
لبَـطنٍ ظَهراً وعاد عُرفُ العيش عـندي
نُكراً
لم يُـبقِ من
وفري إلا ذكراً ثـم إلـى الـيوم
هـلمَّ جــراً
لولا عجوزلي
بسُرَّ مـن را وأفْـرُخٌ دون جـبـال
بُصـرى
قد جلبَ
الدهرُعليهم ضـُرّا قتـلت يـا سادةُ
نفـسي صـبراً
فبحرقة الأسف وقرحة الأسى، يتحدث أبو
الفتح الإسكندراني عن واقع جديد، أيام الدولة العباسية، أدى إلى نبذ الشاعر.
وبالرثاء والبكاء، يتحدث عن أيام زمان، حيث بلغ الشعر ذروة ازدهاره، وكان المتلقي
هو من يبحث عن الشاعر وليس العكس. إنها عاصفة الدهر، التي أودت بعاطفة الشعر،
وتشخّصت في وضع وضيع جديد من حديد.
يعتبر الدكتور عبد الفتاح كليطو بأن "هذا
الوضع الجديد هو الذي ربما يفسر لنا، في القرن الرابع، ظهور المقامات التي تدور
معظمها حول الكدية"(7)، ففي هذه الأبيات التسعة، يلتقي عُمق القصة
بعُقم القصيدة، حيث أصيبت القصيدة بالعُقم في عُمق الواقع الطافح كيله على لسان
أبي الفتح الإسكندارني، فصارت القصيدة قضيةً
للقصة التي تظهر في شكل مرافعة أو شكوى محبوكة بدقة فنية متناهية، فكأن
قوله "خذهما معاً" يضعنا أمام السرد والشعر معاً، كأنه يعكس شعور
الهمذاني إزاء المقامة، باعتبارها قصةً خرجت من رحم القصيدة.
وهل اضطر أبو الفتح (الشاعر) للسير
(المشي) صوب مجلس الشباب الذين كانوا يتذاكرون القريض رفقة الراوي عيسى بن هشام،
إلا بعد أن جار الدهر على شعره، وأفلس مجلسه، وانفرط عقد النظم لتنتثر درر الكلمات
في النثر، بعد أن كانت كمالات في الشعر، إذ ارتبكت "رقصة" القصيدة،
فصارت "مشية" القاصد نحو القصة في شكل مقامة؟.
ــــــــ
(1)
فلاديمير بروب: مورفولوجيا القصة،
ترجمة: د. عبد الكريم حسن- د. سميرة بن عمّو، الطبعة الأولى سنة 1996م، ص43.
(2)
د.عبد الفتاح
كليطو: الأدب والغرابة، دار توبقال، الطبعة الثالثة 2006، ص57.
(3)
المرجع السابق،
ص 57.
(4)
المرجع السابق،
ص58.
(5)
المرجع السابق،
ص 58.
(6)
المرجع السابق،
ص 116.
(7)
المرجع السابق،
ص 58.
♣♣♣
ممنوع النسخ وإعادة نشر النص إلا بعد موافقة المؤلّف